الثلاثاء 2021/09/07

آخر تحديث: 06:18 (بيروت)

حين يكتب لبناني عن الجحيم!

الثلاثاء 2021/09/07
حين يكتب لبناني عن الجحيم!
increase حجم الخط decrease

صحافي روسي مستقل يتابع جيداً الوضع في لبنان، أرسل لي نهاية الشهر المنصرم رسالة تحمل أسئلة كثيرة عن مصير تشكيل الحكومة، وعن تصريح لميقاتي يتحدث فيه عن "مشاكل كثيرة" تعترض التشكيل. وسأل عن هذه المشاكل التي يقصدها ميقاتي، وهل هي عينها التي اعترضت الحريري، "أي رغبة الرئيس عون في الحصول، بأي ثمن، على الثلث المعطل، أم أن هناك أمراً آخر". ويهتم الرجل بالعلاقات الشخصية بين الرجلين، وما إن كان من أمل في قدرتهما على الحلول الوسط والتنازلات المتبادلة، بما يسمح بتشكيل الحكومة سريعاً، أم أن كل شيئ سيتكرر، كما مع الحريري. ويسأل الصحافي عن العلاقات بين الأحزاب الرئيسية والسياسيين، وعن الدور الذي يلعبه حزب الله، وما إن كان إيجابياً أم سلبياً، "وما هو موقف خصومه وأصدقائه من ذلك". وكصحافي روسي ما كان بوسعه إلا أن يسأل عن دور الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل، وهل هو "إيجابي أم سلبي".   

يختتم الصحافي الروسي أسئلته بالسؤال الأساس الذي لا بد أن تمر به النصوص الروسية (على قلتها) عن لبنان في الفترة الأخيرة، حيث سأل " إلى أي مدى ارتفع خطر الحرب الأهلية في الأسبوعين أو الثلاثة الأخيرة؟".

عتب علي الصديق الروسي لتأخري في الرد على أسئلته، وعاد ليذكرني بها بعد أيام في ذيل رده على أسئلة طرحتها عليه، وتتعلق بإعلان الرئيس الأميركي تخلي الولايات المتحدة عن حروبها الخارجية، بهدف "زرع الديموقراطية" و"تغيير الأنظمة" الخارجة عن سياق التطور في العالم. لم أستنتج من عتبه جهلاً بالجحيم الذي نعيشه في لبنان، والذي يتابعه هو ويعرف يومياته جيداً، لكن الشك ساورني في مدى تقديره للإرتباك الذي يعانيه المصاب في الحديث عن أوجاعه، وفقدانه الثقة بقدرة الكلمات التعبير عن ما هو فيه، فمهما أجدت في وصف الوجع، يبقى الوجع أكبر من الكلمات.

إضافة إلى عجز الكلمة هذا أمام الوجع، كانت تمسك بي عن الرد تهمة تلاحق إبن الشرق الأوسط، وليس زوراً،  بأنه يرمي من فمه الكلمة خالية من المعنى، جثة لا تنبض فيها حيوية الحدث الذي تعنيه. نعم، كنت أخشى من أن يكون الصحافي الروسي مقيماً على هذا الإتهام الشائع، وتبلغه الكلمات عن ذل الحياة البشرية في لبنان وهوانها، من دون أن تتمكن من مقاربة حقيقة الوضع المفجعة. 

لا شك في أن الصحافي الروسي، وكما كل صحافي، أراد شهادة لبنانية عن الحدث الذي يكتب هو عنه. لكن أسئلته تشي بأنه لا يزال يصدق، كما الكثيرين من اللبنانيين،  بأن المسؤولين اللبنانيين هم فعلاً مسؤولون، وأنهم بصدد تشكيل حكومة، وأنهم على معارف سياسية تؤهلهم ليكونوا ساسة، وليس تجار سياسة يمارسون كيديات سياسية، ويتمترس بعضهم بعناد المافيات في الدفاع عن إقطاعاتها، ويفاخر بعض آخر بحرفة تدوير الزوايا التي إكتسبها وهو يبني مكانته بين أثرياء العالم منبطحاً أمام سفاح.

بعد العتب أرسلت للرجل "شهادة من موقع الحدث"، وذلك تفادياً للظن بعجزنا عن معرفة حقيقة ما نحن فيه، وما يرتكبه بحق الحباة البشرية "المسؤولون"، لكن من دون الوقوع في فخ تفاصيلهم التي يتوهمون فيها قدرة على إشاحة أنظار اللبنانيين عن مآسي وهوان يومياتهم. فاللبنانيون في جحيمهم الذين هم فيه لم تعد تعنيهم مسألة تشكيل الحكومة، بل ملّوا من تعداد زيارات ميقاتي لقصر بعبدا، وتذكروا كيف كان أهل الشهيد رفيق الحريري يعدون الأيام في إنتظار معرفة الحقيقة، وحصلوا  في النهاية على إسم المنفذ دون إسم القاتل. سئم اللبنانيون من متابعة ماذا قال ميقاتي لعون، وبأية شروط جديدة جابهه الأخير، وضاعوا بين تعداد الوزارات المشكلة ومن يتولاها، وتأكدوا أن كل الوزارات والمرشحين لها، بل لبنان وكل اللبنانيين هم مشكلة لهؤلاء "المسؤولين". 

لقد أصبح اللبنانيون على يقين بأن المطروح على الطاولة ليس مسألة تشكيل حكومة ولا مسألة الإطاحة بالطائف، بل المطروح هو مصير الدولة في لبنان. وهم يشهدون منذ عقود كيف يتم إفراغ الدولة من الداخل من دون المس بهيكلها الخارجي، تماماً كما يُفرغ "زيز القرع" الثمرة من داخلها. وزيز القرع هذا هو حشرة تكاد لا ترى بالعين، يدخل الثمرة ويأكلها من داخلها، فيتضخم حجمه ليبلغ حجم الثمرة، ولا يتمكن من الخروج منها إلا بعد أن يعود إلى حجمه الأولي. 

اللبنانيون يعيشون على أمل بأن يكون مصير زيز الدولة اللبنانية كما مصير زيز القرع. لكنهم حين يلتفتون إلى ما يحدث في سوريا والعراق واليمن، يدركون أن هذا الأمل يكاد يكون وهماً، وليس حقيقة. 

زيز تجويف الدولة ليس حشرة تكاد لا ترى بالعين، بل هي آلية ضخمة هائلة التسلح والخبرة، تمسك بها إيران في جميع محمياتها العربية لتأكل الدولة من داخلها، وتُبقى على هيكلها العظمي فقط. فهي ليست بحاجة لدول كاملة الوظائف، فاعلة سيدة قرارها في جميع شؤونها، بل هي بحاجة لأشباه دول، لهياكل دول ترفع علماً، وتشغل مكاناً في الأمم المتحدة وهيئات المجتمع الدولي، وتسير كدول كاملة الشكليات، لا الوظائف، في الإتجاه الذي ترسمه إيران.

في إطار هذا التوجه الإيراني، يقيم حزب الله علاقاته مع جميع مكونات لبنان وقواه السياسية، خصوماً وحلفاء. وهو يفيد من نهج عون في شل الدولة وتفريغ مؤسساتها من وظائفها، شرط ألا تنهار، بل تستمر في الوجود بعلمها ومقعدها في الأمم المتحدة وهيئات المجتمع الدولي. كما يفيد الحزب أيضاً من سعي عون للإطاحة بالطائف ودستوره، والعودة بلبنان إلى ما قبل الحرب الأهلية، إذ يعتبر مسعى عون هذا هو خطوة كبيرة باتجاه "المؤتمر التأسيسي" الذي يعيد تقسيم السلطة التنفيذية في لبنان، ويعيد تشكيل جميع مكونات بنيته السياسية الإقتصادية الإجتماعية والثقافية لتتقبل تبديل وجهه كلياً، وتوجهه شرقاً لا غرباً.  

أما بشأن إنشغال صديقنا الصحفي الروسي بمخاطر الحرب الأهلية ومدى تفاقمها في الأسابيع الأخيرة، فلعل"الإشكالات" المسلحة في طوابير اللبنانيين على كل شيئ في كل المناطق اللبنانية، وتحولها إلى إشتباكات مسلحة بين مناطق مختلفة الطوائف تجيب عن هذا السؤال. وهو يعرف جيداً أيضاً أن كل طائفة وكل منطقة أصبح لها خبزها وبنزينها ودواءها وكل حاجياتها التي لا تتقاسمها مع الطوائف والمناطق الأخرى. كما يعرف ايضاً أن لكل طائفة مجموعاتها المسلحة والمدربة، والتي لم تعد تجد ضرورة للتستر على وجودها، بل أخذت تعلن في أجهزة الإعلام عن إستعدادها للدفاع عن "جماعتها" إذا قصرت الدولة في اداء واجباتها، والدولة تعلن بنفسها أنها مقصرة. 

أما بشأن سؤاله الذي لم يكن إلا ليطرحه كصحافي روسي حول دور الولايات المتحدة وأوروبا في الكارثة اللبنانية، وهل هو سلبي أم إيجابي، فالشبهة واضحة بأنه يريدني أن أقول ما يرغب كمواطن روسي في سماعه. فهو يعرف بشأن الجهود الفرنسية والأميركية والإتحاد الأوروبي للمساعدة في خروج لبنان من جحيمه، ويعرف أن المسؤولين الغربيين بلغوا حد توجيه الإهانة لسياسيي لبنان في حثهم على العمل الجدي للخروج من الكارثة. واللبنانيون لا يسعهم إلا أن يقدروا أي جهد لمساعدتهم من أي جهة أتى، وهم يعرفون أن للدول مصالح تقف خلف كل جهد تبذله، وأن سبب فشل كل جهود الإنقاذ الداخلية والدولية هو وجود هذا النوع من "المسؤولين" في لبنان. 

آمل أن أكون أجبت على أسئلة الصديق الروسي. وأشتبه أن الصداقة توقفت بعد تلقيه الردود، إذ لم يعد للتواصل كما كان يفعل.

 

  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها