الأربعاء 2021/08/25

آخر تحديث: 10:41 (بيروت)

تونس.. حتى إشعار آخر

الأربعاء 2021/08/25
تونس.. حتى إشعار آخر
increase حجم الخط decrease
"من يتحدث عن الخرائط فليذهب إلي كتب الجغرافيا لينظر في البحار والقارات، وخريطة الطريق الوحيدة التي أسلكها وسأسلكها بثبات وعزم هي الخريطة التي وضعها الشعب التونسي"... بصيغة تهكمية ينكر الرئيس التونسي الخرائط السياسية. مصطلح "خرائط الطريق"، بمعنى مجموعة المبادئ العامة أو الخطوات اللازمة لتحقيق هدف ما، مصطلح استعارته العربية حديثاً من اللغات الأوروبية. وحقاً بالغ في ترداده إلى حد أن بات مثاراً للسخرية. يسخر سعيد هنا من فكرة "خرائط الطريق" ويدعو الباحثين عنها والمطالبين بها إلى الرجوع إلى الأطالس، تبدو المزحة ركيكة، تضع الدلالة المباشرة في مقابل الدلالة الكنائية، المعني الحقيقي أمام المعنى الملازم له. إلا أن ركاكة تلك المفارقة البلاغية المعكوسة ليست ما يعنينا هنا. ففي الجملة التالية مباشرة، يعدل سعيد عن تهكمه، معترفاً بخرائط الطريق، وبواحدة منها على وجه التحديد، موجودة بالفعل، فهو يسلكها، بصيغة المضارع، وسيسلكها باعتبار المستقبل. لكن أين هي؟

لا يمنحنا سعيد إجابة، لا في كلمته هذه ولا في غيرها، فشهر قد مر من دون أن يطرح الرئيس التونسي أي جدول زمني ولو تقريبي للخروج من الأزمة ولا أفكار عامة لحلها ولا أطراف للتفاوض في ما بينها. وفي نهاية المطاف، يلجأ الرئيس إلي البلاغة، أو بمعنى أدق القليل من الزخرفة الكلامية، مؤكداً فضيلتي "الثبات" و"العزم" في اتباعه لهذه الخريطة، تلك التي "وضعها الشعب" بنفسه، الخريطة المنكرة أولاً والمحتجبة تالياً، وحتى الآن. إلا أن الشعب وكما نعرف، يمكن أن يكون شعاراً فضفاضاً، ذاك الكيان المائع خطابياً، العصي على التمييز بعيداً من إحصائيات استطلاعات الرأي وفرز الصناديق الانتخابية، دال بلا مدلول، برنين خلاب للكلمة ومفزع في آن واحد. إلا أن معضلتي الشعب والخريطة، يتم حلهما ببساطة، وفي قيس نفسه، ما دام هو بعزمه وثباته قد بات تجسيداً للإرادة الشعبية وطالما أن المسار الذي يسلكه هو الخريطة. ويمكن إيجاز هذا كله في أن سعيد لا يتبع خرائط مرسومة سلفاً، بل يستبق هو الخرائط عبر الطريق الذي يشقه، بنفسه وباسم الشعب. وعلى هذا النحو، تعاد الخرائط إلي أصلها، فالطبيعة سابقة عليها، وليس العكس.

والواقع أن المشترك بين الكنايات والخريطة، هو أنها وسائط، أي ترميزات للمباشر وطرق للولوج إليه واستيعابه. و لا ريب في أن الرئيس الذي تم انتخابه من دون سند من حزب أو مؤسسة، قد جاء بفضل استياء الناخبين من تلك الوسائط السياسية، وبوعد ضمني منه بمحوها لصالح صورة من الحكم المباشر. وبعد فيض من الأخبار والإشاعات التي تشير إلى توقيف قاضيات بتهم فساد، ورجال دين، وإخضاع نواب برلمانيين للتحقيق أو للسجن على يد القضاء العسكري، بالإضافة إلي مؤامرات لاغتيال الرئيس وهجمات إرهابية، تبدو ضرورة تلك المباشرة الحصرية، وقد تم تأكيدها، فكل مؤسسة أخرى في الدولة، عدا شخص سعيد، ملوثة وموضع للشك والتشفي أيضاً. ومن اليسير، الحكم على العلاقة المباشرة بالشعبوية، لكن الإفراط في قولبة الواقع قيد التشكل في مصطلحات مجهزة سلفاً، لا يفيد كثيراً، سوى في إثبات صحة تعريفات دائرية، تلف وتعود إلي نفسها.

فبغض النظر عن التوصيفات، فإن المعضلة التي تواجهها تونس اليوم هي أن قوة سعيد تكمن في ضعفه، والعكس صحيح. فمن افتقاده لدعم أي وسيط سياسي، تتولد نزاهته وشعبيته، لكن سرعان ما يسقط الرئيس التونسي ضحية لتلك الوضعية، فمن دون تلك الوسائط، ومع تنحية كافة المؤسسات بوصفها غير مؤتمنة، تصبح تلك العلاقة المباشرة علاقة في اتجاه واحد، من أعلى إلى أسفل. وقبل، أن يمر وقت طويل، تتحول إلى لا علاقة، أو ربما إلى إيهام بعلاقة تخفى وراءها عمل واحدة من المؤسسات القليلة التي لم ينلها التشوية مؤخراً، أي الأمن.

بعد شهر، بلا برلمان ولا رئيس للحكومة وبتعليق ضمني للدستور، عاد الرئيس التونسي مساء الإثنين الماضي ليمدد تجميد البرلمان، لكن ليس بحسب المادة 80، التي اتهمه البعض بإساءة تأويلها في السابق. فهذه المرة، لا يلتمس سعيد أي سند من الدستور، فهذا وسيط فقد قيمته هو الآخر، ويبدو عملياً وقد تم إسقاطه. وفضلاً عن ذلك لا يُلزم الرئيس نفسه بمدى زمني لسريان التجميد، فيتركه مفتوحاً "حتى إشعار آخر". تسقط تونس في حالة أكثر ضبابية من السابق، بلا خريطة طريق وبلا أفق زمني لحالة عدم اليقين، وبلا أي شيء سوى وعد بكلمة من الرئيس في القريب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها