الخميس 2021/08/12

آخر تحديث: 08:56 (بيروت)

انفجار بيروت:لم يتغير شيء بعد عام

الخميس 2021/08/12
انفجار بيروت:لم يتغير شيء بعد عام
© Getty
increase حجم الخط decrease
بعد عام على الانفجار المدمر في مرفأ بيروت، وهو أكبر انفجار غير نووي في تاريخ البشرية، ما زالت العدالة بعيدة المنال، فيما الإفلات من العقاب هو السائد في لبنان، كما لا تزال أسئلة مقلقة عديدة قائمة، وأبرزها: هل الرواية الرسمية عن وصول السفينة "روسوس" إلى ميناء المرفأ عام 2013 صحيحة؟
هل توقفت الباخرة بشكل غير متوقع خلال الرحلة إلى الموزامبيق أم أن بيروت كانت وجهتها الفعلية منذ البداية؟ هل كان مالكو السفينة التي كانت ترفع علم مولدوفا، روس أم سوريين؟ من هم الأطراف الفعليين وراء الشركة الوهمية المسجلة في لندن، التي أرسلت السفينة من ميناء في جورجيا بزعم أنها متجهة إلى موزمبيق؟ هل تم إنزال 2755.5 طناً من نترات الأمونيوم من السفينة إلى العنبر رقم 12 في المرفأ؟ كم طناً بقي مخزناً حتى تاريخ الانفجار في 4 آب/أغسطس عام 2020؟ كم تبلغ كمية النترات التي تمّ نقلها، ومن المسؤول عن هذا الأمر، وما كان الهدف من القيام بهذا الفعل قبل سنوات من الانفجار المميت؟ من المسؤول عن إبقاء هذه المواد الخطيرة في العنبر 12 سراً لسنوات، ولماذا؟ وما هو سبب الانفجار: هل نتج عن أعمال التلحيم بحسب ما قيل حينها أعمال تخريبية، إهمال، هجوم صاروخي إسرائيلي؟ وهل هي مجرد مصادفة أنه في الأسبوع الذي سبق الانفجار، بدأت بعض الأطراف في الحكومة اللبنانية بالتحرك حيال نترات الأمونيوم المخزنة؟
وفي حين تبدو الحصانة التي تتمتع بها الطبقة السياسية في لبنان عائقاً أمام التحقيقات الجارية من قبل القضاء، للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، قدمت أطراف خارجية أدلة قد تساعد في الإجابة على الألغاز التي لا تزال معلقة بعد عام على الكارثة. ففي آب/أغسطس عام 2020، تم تكليف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (أف بي آي) لفحص موقع الانفجار. وبعد ساعات على الانفجار، صرح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن الانفجار هو نتيجة "هجوم"، من دون تقديم أي دليل يدعم هذا الادعاء، وقال: "لقد قابلت بعض من جنرالاتنا الكبار، وهم يعتقدون أن ما حدث في بيروت كان هجوماً. كانت قنبلة من نوع ما"، إلا أن أصواتاً داخل الحكومة الأميركية ناقضت هذا التصريح على الفور.
ويعتقد خبراء المتفجرات في فريق مكتب التحقيقات الفيدرالية أن جزءاً صغيراً، أي حوالى 550 طناً فقط من نترات الأمونيوم تسبب في الانفجار الهائل، لكنهم لم يتمكنوا من تحديد كيفية حصول الانفجار. بدورها، لم تحسم التحقيقات الفرنسية سبب الانفجار. وفي هذه الأثناء، تواصل الحكومة اللبنانية والقضاء وأجهزة الأمن الهروب من المسؤولية، بل وعرقلة التحقيقات. ولعل لافتة احتجاجية علّقت في المرفأ بعد الانفجار هي أصدق عبارة للتعبير عن حال اللبنانيين وهي "نحن رهائن لنظام قاتل".
وأصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" منذ أسبوع تقريراً عن الانفجار بعنوان "دبحونا من جوّا". وقد شرح التقرير بالتفصيل طبيعة أفعال وتصرفات المسؤولين اللبنانيين الجبانة والاجرامية، علماً أنهم مهيمنون على كل مؤسسات الدولة، التنفيذية والتشريعية، كما القضاء والجيش وأجهزة الأمن والجمارك. وقد استند التقرير، بحسب المنظمة، إلى سلسلة طويلة من التقارير والمراسلات والمذكرات والتحذيرات حول احتمال وقوع انفجار مدمر في المرفأ. وأشارت التقارير إلى أنه كان من الممكن اتخاذ خطوات فعالة لإزالة المواد المتفجرة في المرفأ، وأن عدداً من المسؤولين الصغار في المرفأ حاولوا حثّ المسؤولين الكبار على إيجاد حل لنترت الأمونيوم، إلا أنهم تقاعسوا، ولم يقدم أي منهم على أي خطوة لحماية المدنيين ومنع وقوع الكارثة.
وبحسب التقرير، فإن عدداً كبيراً من المسؤولين في السلطة كانوا على علم بتخزين كميات كبيرة وخطيرة من نترات الأمونيوم، في ظروف غير آمنة وفي عنبر غير مؤمن كما يجب وسيء التهوئة، وعلى بعد 100 متر فقط من منطقة تجارية وسكنية مكتظة، وبجوار صومعة تخزين الحبوب، التي دمرها الانفجار. تخزين مادة نترات الأمونيوم شديدة الانفجار يجب أن يكون وفقاً لمواصفات ومعايير وضوابط التخزين الآمن، وفي أماكن نظيفة ومنفصلة، أي على بعد متر واحد على الأقل من بعضها البعض، وعلى بعد متر واحد من جدران العنبر، وأن يتم التخزين على بعد 1500 متر على الأقل من أي مناطق سكنية أو منشآت تجارية، وألا يتم حفظها في مكان مغلق وأن تكون حرارة الغرفة ثابتة. وعلى وجه التأكيد، لا يجب تخزينها أبداً جنباً إلى جنب مع المواد المتفجرة الأخرى، مثل الألعاب النارية والاطارات، أو أي نوع من المتفجرات بطيئة الاحتراق.
جميع التحقيقات في انفجار المرفأ غير المتصلة بالتحقيقات الرسمية اللبنانية الجارية، وصفت العنبر 12 والتخزين العشوائي للمواد الخطرة داخله، على أنه قنبلة ضخمة قابلة للانفجار في أي وقت وتدمير المرفأ وجزء كبير من بيروت، فضلاً عن تعريض عشرات الآلاف من المدنيين، ومصادر الأرزاق، للخطر.
كل هذا الخطر المحدق داخل العنبر لم يكن حافزاً للمسؤولين اللبنانيين للقيام بأي أمر لتجنب خطر المواد المخزنة. في الواقع، لقد عملوا على ضمان عدم القيام بأي خطوة لمنع هذه الجريمة المأساوية. وبالنظر إلى الحصانة التي يتمتع بها جميع المشتبه بهم الرئيسيين في الانفجار، فإن السلطات اللبنانية مصممة على عدم القيام بأي مبادرة للتوصل إلى تحقيق كامل وشفاف، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار، الذي تصفه "هيومن رايتس ووتش" بأنه "قتل متعمد".
وعلى الرغم من أن هناك حقائق حول كيفية دخول نترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، إلا أن المسؤول عن قرار تخزينها بطريقة غير مسؤولة والحدث المفاجئ الذي أدى إلى وقوع الانفجار الكبير، هما حقيقتان قد لا تنكشفان أبداً، (ليس لأن مثل هذه الحقائق تبقى غامضة بطبيعتها، ولكن نظراً إلى أن الأطراف المسؤولة عن الانفجار ستقوم بطمس الحقيقة والأدلة للإفلات من العقاب). وبالعودة 30 عاماً إلى الوراء، يمكننا تحديد المسار الذي أدى إلى انفجار المرفأ من خلال التركيز على تطورين منفصلين ومصيريين في عام 1990. الأول؛ قانون عفو عام سمح لأمراء الحرب والقتلة والمجرمين والخاطفين واللصوص باستبدال ملابسهم المليشياوية ببذات رجال أعمال باهظة الثمن، بهدف تولي مناصب في السلطة، وأن يكونوا مسؤولين عن كل قطاعات الدولة اللبنانية ما بعد الحرب. والثاني؛ تحويل مرفأ بيروت إلى "مغارة علي بابا والأربعين حرامي"، والذي يعتبر غنيمة قيمة يتم تقاسمها بين أفراد الطبقة السياسية المجرمة في لبنان، وهم أمراء حرب سابقين.
هكذا.. تحوّل مرفأ بيروت من مرفق عام حيوي يعتمد عليه اقتصاد لبنان، إلى مثال عن الفساد والفشل الذريع لبناء الدولة بعد انتهاء الحرب الأهلية أوائل التسعينات. فمنذ 1960 حتى 1990، كانت شركة خاصة تحمل اسم (Compagnie d’Exploitation et de Gestion du Port de Beyrouth) تدير المرفأ، ومع نهاية الحرب الأهلية، انتهى عقد هذه الشركة معها، لتقوم الدولة بالإشراف عليه منذ ذلك الوقت. لكن هذه الدولة، التي خرجت من حرب أهلية استمرت لمدة 15 عاماً يديرها مجرمو حرب، وهي ضعيفة.
في عام 1993، تم إنشاء هيئة إدارية، وهي اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت. وتوزعت المناصب داخل اللجنة على الأطراف السياسية والطائفية الرئيسية في البلاد. لكن الحكومة لم تكن قادرة على السيطرة على هذا المرفق الحيوي والاستراتيجي، بل كانت تشرف على الميناء صورياً فقط. إن الصراع على السلطة والصفقات المشبوهة بين السياسيين الذين يشرفون على الهيئة التي من المفترض أن تكون "مؤقتة"، لطالما كان عائقاً أمام اتخاذ القرارات الفاعلة داخل المرفأ لضمان الشفافية والمساءلة. وفي لحظة الانفجار، كان المرفأ قد أصبح "النقطة الأساس" للفساد والرشوة والتهرب الضريبي والتهريب في لبنان.
يظهر سوء إدارة واستغلال مرفأ بيروت الطريقة التي يتم فيها اتخاذ القرارات في الدولة، والتي تهيمن عليها المصالح الشخصية على المصلحة الوطنية. وبحسب "هيومن رايتس ووتش"، يقول الصحافي الاستقصائي رياض قبيسي: "لم يكن الهدف جعل المرفأ مركزاً لتحقيق إيرادات للدولة، بل لملء جيوب المافيا التي تدير البلاد. وبالتالي، يقوم مسؤول ما بتعيين أشخاص في المرفأ لنهب الأموال له، وليس لوضعها في خزينة الدولة".
قبل ثماني سنوات، قدّر وزير الأشغال العامة والنقل الخسائر الناجمة عن التهرب الضريبي في الميناء بأكثر من 1.5 مليار دولار سنوياً. هذا التصريح، قد يساعد في معرفة مصدر الثروة الهائلة التي يحظى بها عدد كبير من النواب والوزراء اللبنانيين، الذن أصبحوا من أصحاب المليارات.
إن الغطرسة والوحشية التي تتمتع بها الطبقة السياسية في لبنان أصبحت مكشوفة بشكل خاص بعد عام واحد على انفجار المرفأ، ولعل الوضع الاقتصادي المنهار في هذا البلد، والسقوط المدوي لكل القطاعات خير دليل على ذلك. أصبحت غالبية السكان معرضة للجوع، وهم يفتقرون في ظل جائحة عالمية، إلى الماء والكهرباء والأدوية ومراكز الرعاية الصحية المناسبة. وعلى الرغم من أن المجتمع الدولي أبدى استعداده لمساعدة اللبنانيين، ولكن اشترط مكافحة الفساد. لكن بطبيعة الحال، فإن القتلة، الذين يأخذون الشعب اللبناني كرهينة، يتمسكون بمناصبهم وحصاناتهم في السلطة، ويزعمون أنهم مرتاحو الضمير وينامون جيداً في الليل. لعل أصوات البكاء واحتجاجات اللبنانيين، والدعوات المطالبة بإجراء تحقيق دولي شامل، توقظهم من سباتهم غير المستحق. دعونا نرى كيف ينامون بسلام.. ولكن في السجن.
في الذكرى الأولى للانفجار، نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية تقريراً بعنوان "لبنان لا يمكن إنقاذه". كلا.. من الممكن لا بل يجب إنقاذ لبنان واللبنانيين. إنها الطبقة السياسية التي يجب إبعادها عن السلطة بعد الخطايا التي افتعلوها والحزن الذي اختلقوه. ولتعافي لبنان من هذه الجريمة الشنيعة، إن التحقيق الدولي هو خطوة مهمة، لا بل أساسية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها