الأربعاء 2021/06/16

آخر تحديث: 06:14 (بيروت)

الدحيح والسياسة التي لا يفهمها

الأربعاء 2021/06/16
الدحيح والسياسة التي لا يفهمها
increase حجم الخط decrease

يصدر الدحيح بياناً واضحاً، برنامج هذا النجم المصري يتمتع بجمهور مليوني، ولديه هو متابعون بالحجم نفسه، ويستدعي ذلك ردّ فعل سريع وحاسم، فالشهرة لها وجهان. يعلن الدحيح موقفاً بسيطاً وجلياً من قضية فلسطين وفي شأن التطبيع، ويقرّ بعلاقة تطبيعية للمنصة الجديدة التي يطلق منها برنامجه، لكن تلك العلاقة انتهت. تصدر المنصة نفسها بياناً بالمعنى، لا اعتذار ولا إعلان موقف من التطبيع، لكنه تبرّؤ ضمني، فتنفض يديها بنبرة خجولة لكن مُرضِية. بعض من جمهور الدحيح الغاضب يحتفي، فحملة لم تتجاوز اليوم الواحد كانت كفيلة بانتزاع حق ما، سلطة على نجمها، وألزمته بتبرير نفسه، أما المنصة فيقال أنها شرعت في مسح كل ما قد يربطها بشبهة التطبيع.

لكن بيان الدحيح الذي يعلن موقفاً واعياً من هبّة الشيخ جراح، وما حدث بعدها، يعود ليخبرنا بأنه لا يفهم في السياسة، والمعضلة لا تكمن في ذلك التناقض الجليّ، بل في مكان آخر. يوازن البيان بين الجهل السياسي في مطلعه، والتأكيد في خاتمته على الحصرية العلمية لمحتوى برنامجه، الذي لا يجيد تقديم سواه. لم يبتدع الدحيح تلك العلاقة، تصوير العلمي كمادة محايدة منزوعة السياسة، العلم النقي بهالة من قداسة التجرد والاختزال في قواعد جامعة. أما السياسي فيبدو محض حقل آخر للمعرفة التخصصية، حقلاً اختيارياً وغير ملزم، شأناً تقنياً بمعنى أدق.

ففي عالم مثالي من النطاقات المنفصلة والمستقلة بذاتها، حقول المعرفة وحقول الفعل، المرسومة حدودها الفاصلة بصرامة ووضوح، يكفي المرء أن يتخصص في أحدها، وتقييم كفاءته بمدى تعمقه ومراكمته لرأس المال المعنوي في حقل بعينه أو ربما اثنين على الأكثر. توقّر بُنية العمل المعاصرة التخصص والحصرية وتقسيم المهام إلى وحدات صغيرة، متناهية الصغر، منفصل بعضها عن بعض بمسافات هائلة، وفي النهاية يتم تجميعها، وبمعزل عن كل عملياتها الأولية الصغيرة، المتشرذمة والمبعثرة.

نعرف أن الدحيح يقدم محتوىً سياسياً، من تأريخ للحروب العالمية، إلى انثروبولوجيا علاقة النسب، ومعاني السلطة وعلاقاتها باللبن (الحليب) والدم، يقدم البرنامج فعلاً حلقة عن موضوع بهذا العمق المسيس لسوائل الجسد، بل ونقداً محلياً لنظريات النسب ذات المركزية الغربية. وفي حلقة أقل مصداقية، كونها تعتمد على مرجع واحد لا أكثر، يقودنا الحديث عن كرة القدم في الأرجنتين إلى بُنية الدولة الحديثة هناك، والطبيعة المُختلقة للوطنيات، تلك التي تدور في معظمها حول بُنى هشة كالرياضة واللاعبين النجوم والفرق القومية والانتصارات الكروية لسكان معظمهم خليط من المهاجرين. يمكننا الادعاء، من دون الكثير من المبالغة، بأن الدحيح يقدم نموذجاً فريداً، ربما من دون قصد، لتداخلات وتشابكات وتقاطعات وتسربات السياسي إلى كل حقل آخر.


إلا أن نبذ السياسي تحديداً، لا يتم كونه حقلاً آخر بعيداً، بل لأنه عبء ولأنه العنصر الأكثر إقلاقاً وتطلباً وإلحاحاً. الفنون والآداب أو على الأقل نظرياتها المعاصرة، تلك التي خرجت مظفرة من الحرب الباردة، تعالت على السياسة بوصفها تلوثاً أو عنصراً شعبياً ديماغوجياً، عنصر يفقد الجماليات ألقها النخبوي وفرادتها وفرديتها. فالسياسة بوصفها أخلاقاً عامة تم تصويرها كتحدٍّ للفرد وعقبة أمام إبداعه. وتم تعميم تلك النظرة إلى مجالات أخرى، من الاقتصاد إلى الثقافة الجماهيرية وفنون الترفيه. حتى السياسة نفسها، نالها ازدراء السياسة، وتم تفريغها من نفسها، حكومات التكنوقراط أحد وجوهها، السياسيون النجوم وجه آخر. لكن الانتفاضات التي تطالب بإسقاط السياسيين لصالح التكنوقراط، أو تلك التي تفضي إلى حكم الخبراء كمسار طبيعي للأحداث، من بيروت إلى الخرطوم، بدت وكأنها حكم نهائي بموت السياسة.

يتبقى لبيان الدحيح لعبة خطابية أخيرة، حسنة النية على الأغلب. إذ يفصل بين المحتوى ومنصته، فمحتوى البرنامج سيظل كما هو، وهو يعدنا بأنه لن يصبح يوماً مادة للدعاية. لكن هل يمكن حقاً الفصل بين الاثنين، التمييز بين المحتوى والقالب، المحتوى والسياق؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها