الجمعة 2021/06/11

آخر تحديث: 20:51 (بيروت)

لبنان والسودان..استحقاقات مصيرية واحدة

الجمعة 2021/06/11
increase حجم الخط decrease

في المنطقة العربية، دولتان على طريق انهيار وتفكك واحد، السودان ولبنان. رغم أن في السودان حكومة مدنية ترفع الدعم وتُعيد البلد الى خريطة العلاقات الدولية وتُعبّد الطريق أمام عودة الاستثمارات الأجنبية، إلا أن ظهور الميليشيات وغياب أي رزمة دعم خارجية واضحة وطارئة لا يُبشر بتحسن قريب للأوضاع. 

لكن ماذا يحصل حالياً في السودان، وكيف بإمكاننا قراءة دروسه للوضع اللبناني؟ 

بعد سقوط الرئيس السوداني عمر البشير قبل سنتين (نيسان أو أبريل عام 2019) في انقلاب بعد شهور من الاحتجاجات الشعبية ضده، حصل اتفاق بين القوات المسلحة من جهة، وبين القوى المدنية المشاركة في الانتفاضة، أنتجت حكومة انتقالية برئاسة الأكاديمي عبد الله حمدوك.

طبعاً، حمدوك تنقصه الخبرة وأخطأ في اختيار فريقه الحكومي، واضطر إلى اجراء تعديلات على تشكيلته أكثر من مرة بما يُوحي بعدم الاستقرار. إلا أن الرجل ورث أيضاً وضعاً اقتصادياً منهاراً بالكامل، مع نفاد احتياطي العملات الصعبة وعدم القدرة على مواصلة دعم المحروقات وسط عقوبات قاتلة للاقتصاد. ذاك أن إطاحة رئيس تحكم بالبلاد لثلاثة عقود حطم خلالها مقدرات البلد، تفتح أبواب الخلافات داخل القوى المتحالفة في سبيل التغيير، وهو ما حدث فعلاً في أكثر من محطة سياسية. 

ومنذ قيادة الحكومة، يشهد السودان تراجعاً على مستويين. أولاً، في الاقتصاد ونظراً لوضع الجائحة وحاجة البلاد الى استثمارات خارجية في البنى التحتية للنهوض بالبلاد، ينصاع حمدوك لمطالب صندوق النقد الدولي وغير من الدائنين، ويرفع الدعم عن السلع الأساسية، وكان آخرها وأهمها هو الوقود، أو البنزين الذي تضاعف سعره سريعاً.

أول الدروس السودانية للبنان هو أن رفع الدعم يعني انهياراً اجتماعاً واسع النطاق. في السودان اليوم، يُواجه عشرة ملايين مواطن نقصاً غذائياً. سحب البساط من تحت هؤلاء هو خيار لا أخلاقي، مهما كانت النتائج الاقتصادية المتوخاة منه على المدى البعيد. الرفع التدريجي للدعم ضمن خطة مدروسة وتُؤمن البدائل للمواطنين، ولو بالحد الأدنى، هو المطلوب. هذا متوافر مثلاً في لبنان حيث بإمكان الدولة والمعنيين فيها توفير بدائل بالنقل العام وخطة تدريجية، بدلاً من الذهاب الى خيار الرفع الكامل والصادم. هذا ما يحصل في السودان، ومن المرشح أن يحدث هنا.

ثانياً، في المجتمعات المسلحة والمنقسمة على ذاتها، الانهيار الاقتصادي والمالي وتدهور قدرة الدولة، يتحولون سريعاً الى فوضى عامة ويفتحون المجال أمام صعود قوى أهلية مسلحة. هذه النزاعات تحدث حالياً في السودان، وتُهدد اتفاقات السلام المعقودة فيه. كيف بإمكان الدولة المنهارة وغير القادرة على توفير الوقود، أن تُحافظ على الأمن في السودان؟ بكلام آخر، لرفع الدعم بهذا الشكل غير المدروس، انعكاسات كبيرة على البنية الهشة للأمن في بلد مثل السودان، وكذلك لبنان.

ثالثاً، الثقة تأتي قبل الإصلاح. حمدوك ونتيجة إخفاقات عديدة خلال الفترة الماضية، خسر ثقة الكثيرين من السودانيين، وهذا جزئياً لأن الرجل أساساً لا يملك مفاتيح السلطة التي ما زالت تُمسك بها القوى العسكرية وفلول النظام "المخلوع". عملياً، تتلطى هذه القوى وراء حمدوك، وتمنع أي انتقال سلس في النظام، لا بل هناك من يتهمها بالإمساك بأموال الدولة وبالوقوف وراء تردي الخدمات بهذا الشكل. وهذا يرفع من احتمالات اندلاع احتجاجات واسعة ضده لإسقاطه، ومعه مشروع مشاركة الحكم بين العسكر والمدنيين برُمته، ولو أن الفريق الأول لم يلتزم بدوره "التشريفي".

وأخيراً، الاتكال على الخارج ليس وحده حلاً، رغم كونه خطوة مهمة باتجاهه. لم تُظهر الدول الغربية وتحديداً تلك الداعية غالباً الى الانتقال للنظام الديموقراطي، أي رأفة بالسودان بعد اطاحة نظام إسلامي-عسكري كان راعياً للارهاب، بل أصرت على الشروط القاسية لصندوق النقد الدولي. رفع الدعم ودفع الملايين الى حافة الجوع، ليس خياراً مناسباً في بلد يُعاني من فقر مدقع وشُحّ في الموارد وبطالة مستدامة وعنف في الأطراف (تصاعد في حالة دارفور الى جرائم ضد الإنسانية). حتى اتفاق السلام مع الجانب الإسرائيلي لم يُثمر في المساعدات والاقتصاد. صحيح أن العملية سهّلت رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للارهاب، وأعادته الى المجتمع الدولي، مالياً واقتصادياً وسياسياً، وشجعت على شطب قسم من الديون. لكن هذه الخطوة، لم تُثمر مساعدات سخية، ولم تُوفر عليه معمودية رفع الدعم قبل دخول استثمارات أجنبية وشطب قسم من الديون الخارجية. لا يُغني التحول السياسي، وهو في هذه الحالة ضروري، عن ضرورات الإصلاح الاقتصادي والمالي.

في لبنان، لا يوجد أي تحول سياسي، بل استمرار لحالة الانقسام والبعد عن المنظومة العربية وسط دعوات للتقارب مع ايران المعزولة دولياً. ويجمع لبنان أيضاً بين هذه السياسة الخارجية من جهة، وبين تفضيل خيار رفع الدعم بشكل صادم ودون تخطيط او تدريج. 

رغم المخاوف الحالية في السودان من انهيار شامل للوضع وسط الاحتجاجات على رفع الدعم، إلا أن حظوظ البلد بالخروج من أزمته الحالية لا تزال قائمة وربما أقوى من لبنان. لكن البلدين يُقامران بأمنهما وسلمهما الداخلي مع الإقدام على رفع الدعم بهذا الشكل، وقد تُثبت لنا الشهور المقبلة أن مثل هذه الحلول الاعتباطية تفتح صندوقاً جديداً من المشكلات والأزمات يُصعب حلها بحكومة أو بمساعدات شحيحة لن تعود مجدية.


 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها