الأربعاء 2021/04/07

آخر تحديث: 07:53 (بيروت)

موكب المومياوات: ديزني في ميدان التحرير

الأربعاء 2021/04/07
موكب المومياوات: ديزني في ميدان التحرير
المومياوات ليس موكباً، بل ببساطة استعراض
increase حجم الخط decrease
كيف للصورة أن تصبح بديلاً عن الأصل؟ أو أن تبدده بالكلية، من دون حاجة لملء فراغ يخلفه وراءه؟ أي في زمن الاستعراض، كيف يغدو الحقيقي فائضاً لإسراف الصورة؟ التحرير، حين تجسّد الواقع قبل عشرة أعوام حشوداً من لحم ودم، ملأت فراغات المدينة لتعلن ملكية مركزها. هناك تحديداً، ينبسط الميدان خشبة للاستعراض، وتُمسخ مبانيه ديكوراً لدخول انتصاري، لموكب سلطة مزهوة، أو بالأحرى خروج متأخر لها، من عاصمة تُهجر ببطء إلى نسخة جديدة منها، محصنة في الصحراء، ولا تشبهها في شيء. حتى المومياوات تغادر التحرير، رمزية غير مقصودة بالطبع، لكن لا ينفي هذا مأساوياتها، فالرمزيات في معظم الأحيان اعتباطية. الميدان فرَغ من الحياة الحقيقية، (إن كان هناك ما يمكن نعته بالحقيقي) شيء مصطنع ومبستر، محيط التحرير غُيبت عنه الحركة، لا مشاة ولا مركبات، المحال مغلقة، والمواطنون ممنوعون من الإطلال من شرفاتهم أو الاقتراب حتى من النوافذ، وسط المدينة محاصر ومسوّر وفي عزلة،  الخواء في صورته الأكثر إفراطاً. هكذا، تحتجب الحياة فجأة وتُمحى معه آثار الذاكرة القريبة، لصالح تاريخ السبعة آلاف سنة. تاريخ في حالة نقاهة أبدية، الماضي المحنّط لأغراض الكرنفالات الوطنية وبروباغندا ورثته من المستبدين المعاصرين.

النظام المدمن على إبهار العالم، بعد أن أمم الإنتاج الفني على الشاشات بمسلسلات جهاز الأمن الوطني والصحافة وشركات الإنتاج السينمائي المملوكة مباشرة للمخابرات، ينصب أخيراً استعراضه الأكبر في الهواء الطلق، ممثلون وكومبارس وعجلات حربية في الساحات، تستحضر الماضي، الذي لم يوجد أبداً في عملية تدريجية لتغييب الحاضر، وسط بريق أضواء الليزر وبين صفوف سيارات الجيب المتخفية داخل هياكل باللون "المدهب". وبعيداً، الجماهير المحبوسة خلف التلفاز تعاين خيالاً هوليووديا، ديزني بمجاميعها، والكادرات المحتشدة بالطوابير البشرية المنتظمة في حركتها تلتقط من أعلى بطائرات "الدرون"، وفي الخلفية الموسيقى ذات الإيقاعات الدراماتيكية، تصعد وتهبط على سلم الغناء الأوبرالي المهيب والفخم...

ديزني محلي يداعب طموحات الطبقة الوسطى المجهضة، وتناقضات المشروع الوطني الخائر، ومفاهيمه الركيكة عن الجماليات ومعنى أصالتها، خليط من فرعونية مستعادة، كنيشان لهوية فرغت من أي محتوى، مع تمسح بفنون الغرب "الراقية"، أوبرا وباليه واوركسترا ونجوم بيض البشرة وبشعر مصبوغ، يرددون شعارات وطنية متشنجة مع أنشودة بلغة غامضة كتعويذة لأضاحٍ بشرية، تقتل كل يوم بلا حساب على مذبح الوطن. 

الموكب طقس الفاشيات الأكثر فعالية، لا يفقد أبداً سحره، أمامه يشعر المرء بتصاغره، هشاشته وفرديته الضئيلة أمام الطوابير المتقدمة تباعاً في صرامة ميكانيكية، موجات من البشر والآلات والمركبات والتوابيت والأسلحة وأيقونات الماضي، وفي خضم الانبهار بالأصوات والصور الفائقة والمهولة، ينغمر الفرد في الحشد، وينجرف معه. الموكب هو الصورة المقلوبة للحشود الثائرة، النسخة المهندسة من الجماهير في مرآة السلطة، بعد تهجينها وتهذيبها وتعقيمها، لتصبح منزوعة الفعالية وطيعة بالكامل. إلا أن ما كان في التحرير لم يكن حتى موكباً، الموكب يحتاج جماهير هي صلبه، لكن النظام الذي أصابته تروما الجماهير، سمح بها لمرة واحدة أخيرة في أيام الثلاثين من يونيو/حزيران، وبعدها جرّمت. لا يتصدى النظام اليوم للحشد سوى بإطلاق النار الحي، شهيدة الوردة شاهدة على مصائر من حاولوا العودة إلى الميادين، حتى فرادى. موكب المومياوات ليس موكباً، بل ببساطة استعراض، تزييف مزدوج، تزييف للتزييف، الحشد ينقلب موكباً والموكب يُمسخ عرضاً. 

الجماهير المنكفئة على خيباتها وكوارثها المتلاحقة، المقموعة والمحرومة من الالتحام مع بعضها البعض، تنتهز أي فرصة للفرح القصير وللفخر ولو الزائف، للذة الشعور بالانتماء لشيء جمعي وإن كان بعيداً جداً وغامضاً، للابتهاج بخيلاء استعادة مجد الماضي، فليس هناك الكثير مما بقي في الحاضر، ينتشي الجميع بالاستعراض الناجح وبخرافات إبهار العالم مرة أخرى. أما الدولة في اليوم التالي، فتفصح ببلاغة غير مقصودة عن طبيعة العرض، فتعلن وزارة السياحة بفخر أن الموكب يستحق الأوسكار، جائزة مستحقة من دون شك لإنجازات النظام الهوليوودية. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها