الأربعاء 2021/04/21

آخر تحديث: 07:35 (بيروت)

دوري "السوبر" الأوروبي: نهاية التاريخ؟

الأربعاء 2021/04/21
دوري "السوبر" الأوروبي: نهاية التاريخ؟
احتجاجات محبي كرة القدم، شمالي انكلترا، على الدوري السوبر أوروبي (فرانس برس)
increase حجم الخط decrease
اتسعت الضجة التي أثارها الإعلان عن دوري السوبر الأوروبي، لتشمل تهديدات بحرمان الفرق واللاعبين المنضمين إليه من المشاركة في بطولات الفيفا ورابطة كرة القدم الأوروبية (ويفا). وبعد أقل من 24 ساعة، سياسيون يدينون ويتوعدون، ورئيس الحكومة البريطانية يعقد اجتماعاً طارئاً مع الجهات المعنية بينها ممثلون عن المشجعين، مع تواصل بين الحكومات الأوروبية. أما التعليقات في وسائل الإعلام، فتعلن نقطة تحول في تاريخ كرة القدم، وتحطيماً للعبة بدافع الجشع. ولا يمكننا ببساطة اتهام ردود الأفعال تلك بالمبالغة، فبالفعل يزعزع نظام البطولة المقترح أحد أركان الرياضة الأساسية، ويعطل واحدة من أهم وظائفها، تلك المتعلقة بالمعنى، والمسافة بين الرياضة واللعب.


الرياضة نوع خاص من اللعب. فإن كان اللعب هو ما يتشاركه البشر بالطبيعة مع الحيوانات، والبالغين مع الأطفال... فالرياضة، بمفهومها الأولمبي، هي ما يتقاسمه البشر مع السماء. اللعب عنصر البراءة، فيما الرياضة هي النظام الذي فرضه الإغريق على عبث آلهتهم. اللعب حقل مكتفٍ بذاته، الرياضة في المقابل، لا تكتمل سوى بوجود الآخرين، المنظّمين والمشجعين والحكّام والمشاهدين. واللعب أيضاً هو الشيء في ذاته، والرياضة، على العكس، تتمحور حول الغاية، ولا عجب أن تكون نتائجها محسوبة بالأهداف. يعطل اللعب الزمن، يحوله إلى محيط من النقاط المنتشرة إلى ما لانهاية، والمتساوية في القيمة، أي أنه أبدية في اللحظة. أما الرياضة فمحورها تكثيف الزمن، تقطيعه، وفرده على مسطرة للمصير، محددة سلفاً بنقاط البداية والنهاية، مواجهة مؤقته مع حقيقة الفناء.

هذا ما يتعلق بالزمن الخام. أما في الزمن المعالج، أي التاريخ، فاللعب لا يعرفه. اللعب لا تاريخي، أو بشكل أدق، قبل تاريخي. الرياضة هي اللعب حين يدخل في تيار التاريخ، فيتخذ شكلاً بعينه. فالرياضات الكبرى، كما نعرفها اليوم، بقواعدها، هي ابنة ثقافة أنكلوسكسونية، إحيائية أخرى لجزء من الأصل الهيليني، حملتها الامبراطورية البريطانية معها إلى مستعمراتها وأبعد. أراد ماركس أن يتحرر العمل من رأس المال، فيغدو العمل لعباً في مجتمع بلا طبقات. لكن الرياضة كانت العكس، حين ابتلعت اللعب داخل نظام رأس المال، فاصبح اللعب عملاً.

هكذا، الرياضة هي اللعب بعد ولوج عالم الاغتراب. ففيه، وكما يغترب العامل عن عمله وما ينتجه، فإن اللاعب يغترب عن لعبته وعن نفسه، حين يصبح هو واللعبة سلعة قابلة للبيع والشراء والإقراض والمضاربة.

إلا أن هذا كله لا يعني أن اللعب والرياضة ساحتان منفصلتان، فكل لعب يمكن أن يصير رياضة، وكل رياضة يمكن أن تعود لعبة. الرياضة لعب من نوع خاص، كما قلنا، لأنها تقع على تخوم اللعب، في الشريط الحدودي لتقاطعاتهما أو الصدع الفاصل بينهما، تلك المسافة التي لا يمكن تجسيرها سوى عبر الرمز. وهذا جوهر الرياضة، كونها لعبة محمّلة بالرموز ومُنتِجة لها. الرياضة صورة للعالم كما يجب أن يكون، بحسب إيديولوجية بعينها، المنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص، سنّة التغيير ودورية الربح والخسارة، أحكام الصدفة، التحقق الفردي والعمل الجماعي وقيم الانتماء، التراتبية والحسابية، حتمية المنافسة وضرورتها والتسليم بنتائجها. أرض الملعب نموذج مصغر لأيديولوجيا السوق وقواعد الحرب، مسرح أخضر لتمثلات الأخلاق والاقتصاد الرأسماليين، تُرسِّخ القائم كما تَمنَح أملاً في التغيير في ظله وبحسب قواعده.

يتخلى دوري السوبر الأوروبي عن هذا كله، فبين الفِرَق العشرين المفترض بها المشاركة في البطولة، 15 فريقاً مؤهلة بشكل دائم وآلي، و5 فقط ستصعد إليها عبر التصفيات. تزعزع تلك المنظومة فكرة التأهيل عبر المنافسة، وتساوي الفرص في لحظة البداية، والأهم أنها تقيّد الحلم بالصعود وتضيّق احتمالاته، فيتحول الدوري نادياً خاصاً، أو منافسة نخبوية مغلقة على فرق القمة، صورة ما من الحكم بـ"نهاية التاريخ" في مجال اللعب. فنهاية الرياضة هنا تعني أن المنافسات حُسمت بالفعل، عبر مستويات الهرم في الماضي، وما بقي هو الاستعراضات المتبادلة بين المتربعين على القمة.

لكن الضجة المثارة اليوم لا تدور بين الرسملة ومعارضيها. ذلك أن كرة القدم الأوروبية هي بالفعل واحدة من أكثر المجالات رسملة على وجه الأرض. الصِّدام في الحقيقة بين الأخلاق المدعاة للرأسمالية وواقعها. مؤسّسو دوري السوبر الأوروبي، أكثر أمانة مع أنفسهم وأكثر مباشرة، يدعوننا للاعتراف بواقع العالم كما هو. الجميع ليسوا متساويين، والسوق لا تتيح الفرص للجميع، والاستثناءات لا تصنع القاعدة، لكنها تؤكدها، وأحلام القفز على السلّم الطبقي ليست سوى أوهام يروجها نظام اللاعدالة القائم.

الأكثر إدهاشاً في نظام السوبر هذا، أنه لا يشبه فقط سوقاً تتراكم فيها الاحتكارات بشكل عالمي يوماً بعد الآخر، كما هو الواقع اليوم. بل كذلك، يشبه المنظومة السياسية الدولية، مرآة لمجلس الأمن بأعضائه الدائمين وحقهم المطلق في الفيتو.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها