الإثنين 2021/04/12

آخر تحديث: 10:43 (بيروت)

الملك هو الملك

الإثنين 2021/04/12
الملك هو الملك
increase حجم الخط decrease
(الملك هو الملك) مسرحية معروفة للمسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس، استند فيها إلى تراثنا، حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، تحكي قصة ملك استبدّ برعيته وعبث بهم وبأحوالهم، لكنه وصل إلى حالة من الضجر بأبهة الحكم، فقرّر في إحدى الليالي أن يتنكر ويخرج بحثًا عن ترفيه بين العامة، فالتقى بتاجر سابقٍ هائمٍ على وجهه اسمه (أبو عزة)، وغارقٍ في أوهامه وهمومه، بعد أن أفلس وخانه الدهر، وركبته الديون، بسبب تآمر شهبندر التجار والقاضي عليه، وأصبح يمضي وقته في الخمرة والأحلام، متمنيًا أن يصبح سلطان البلاد مدة يومين كي ينتقم ممن ظلموه ويحاسبهم.

يقرِّر الملك أن يلبسه ثيابه ويجعله ملكًا مدة يوم واحد للترويح عن نفسه، وطمعًا بشيء من الضحك. لكن عندما يتحول الحلم إلى حقيقة، ويصبح (أبو عزة) ملكَ المدينة، تقتضي مصالح الآخرين، مثل الوزير وشهبندر التجار وغيرهم، استمرار اللعبة وجعلها حقيقة واقعة، حتى أن الملكة وحراس القصر تعاملوا مع (أبو عزة) بوصفه الملك. أما بالنسبة إلى (أبو عزة) نفسه، فإنه أخذ يمارس الحكم بطريقة الملك السابق نفسها، وأدواته كانت الظلم والاستبداد، والغريب أنه نسي ثأره السابق، فلم يحاسب من ظلموه سابقًا، بل أخذ يثني عليهم ويسوق الحجج التي تبرِّر نصبهم واحتيالهم، حتى أنه قرّبهم منه، لأنه اكتشف أنهم من أركان ديمومة حكمه. أما الملك السابق فيجد نفسه ضحية لعبته الترفيهية، ويخرج من اللعبة، ويصبح في النهاية مجنونًا كما كان (أبو عزة) قبل تسلّمه الحكم.‏

ثمة عبر كثيرة يمكن استخلاصها من هذه المسرحية؛ هناك درس سياسي واضح يتمثّل بأن تغيير الأفراد لا يؤدي إلى تغيير الأنظمة، وأن تغيير قواعد وآليات الحكم لا يحصل بإحلال فرد مكان آخر فحسب، فأبو عزّة الذي لبس ثياب الملك أصبح ملكًا أشد بطشًا من الملك نفسه. أراد ونوس أن يوضح أن كرسي العرش/السلطة ذو سلطان أكبر من معتليه، فبعد مدة تُنسى سحنة وهيئة الحاكم ويبقى الحكم حقيقته الرئيسة.

من جانب آخر، في الأنظمة القمعية ينتفي الولاء للأفكار أو الأشخاص ويبقى الولاء للكرسي، وتكون الشعوب محكومة بمنطق "عاش الملك.. مات الملك"، ما يعني أن الشعوب هي الأخرى تكون محكومة بالتنكر، وليس الحكام فحسب، أي أن الشعوب نفسها تصبح ركيزة من ركائز ديمومة النظام القائم. يُضاف إلى ذلك أن الحاكم نفسه هو تجسيد رمزي للقوى والنظام، وشخصه ليس مهمًا ما دام النظام قائمًا، ولا يعني استبداله شيئًا ما دامت القوى والنظام لا يزالان قائمين، ولذلك اكتشف (أبو عزة) أن استمراره في الحكم مرتبط بمن كان يريد محاسبتهم قبل أن يصبح ملكًا.

ومن الاستنتاجات أيضًا أن الحكم في البلدان القمعية لا يحتاج إلى أكثر من تاج وصولجان، بصرف النظر عن شخصية الحاكم، وبنظرة بسيطة إلى حكام منطقتنا نكتشف بسهولة أن هيبة الحكم لم تقم يومًا على أسس المعرفة أو الخبرة السياسية، أو على أقل تقدير على قناعة البشر بالحكام وبقدراتهم. يقول ونوس في المسرحية: في الأنظمة التنكرية، تلك هي القاعدة الجوهرية "أعطني رداءً وتاجًا، أعطك ملكًا".

التسطيح ونقص الأهلية الموجود على مستوى السلطات الحاكمة، نجد ما يوازيه أيضًا في ساحة المعارضات والقوى السياسية في المنطقة، وإن كانت مسؤولية هذا الأمر تعود في جزء منها إلى المستبدين الذين منعوا السياسة واعتقلوا المعارضين وأشاعوا الخوف في مجتمعاتهم، لكن هذا لا يعفي النخب والقوى الثقافية والسياسية من المسؤولية، خصوصًا من حيث استمرارها في استلهام ثقافة الأنظمة الحاكمة على الرغم من التغيرات التي خلقتها الثورات والانتفاضات الشعبية خلال العقد الأخير.

إذا نظرنا إلى القوى والشخصيات المعارضة والثورية مثلًا، على امتداد المنطقة العربية، نجد أنها أيضًا، في معظمها، تكتفي بالتاج والصولجان، أو ما يوازيهما، مؤهلاتٍ للأداء السياسي، وفي الأحرى بمجموعة من العدّة السطحية التي لا تنفع إلا في إعطاء مظهر شكلاني للقيادة السياسية. في سورية، اعتقد كثيرون أن "السياسة" عمل سهل، ولا يحتاج إلّا إلى تاج وصولجان؛ لذلك كانت العدة السياسية المتوافرة لدى أكثرية رجال وسيدات المشهد هي الظهور الإعلامي، الصراخ والشتائم ضد النظام السوري، وبعض الشعارات التي يعتقد أصحابها، على ما يبدو، أن الإكثار من تكرارها يمكن أن يحوِّلها إلى واقع ملموس. 

لعل أهم ما يميز تجربة القسم الأكبر من القوى السياسية بعد انطلاق الربيع العربي هو استناده إلى منطق التجربة والخطأ في العمل السياسي، وقد تجلى ذلك في التنقلات غير المدروسة سواء أكان على مستوى الخطاب أو الممارسة، فكلما أُغلقت الآفاق أمام تلك القوى والشخصيات اخترعت أشكالًا جديدة، إنما استنادًا إلى المنطق السائد ذاته وآليات العمل نفسها، بل واعتمادًا على الشخصيات ذاتها. أما آليات التفكير والتحليل السياسي فما تزال، على ما يبدو، بعيدة عن معظمها.

أساس العمل السياسي هو العلاقات الموضوعية، وإدراكها شرط أساسي للممارسة السياسية الصائبة. وهذه العلاقات جملة متكاملة من المعطيات الواقعية (التاريخ، الجغرافيا) إلى جانب جملة من العوامل المكتسبة بفعل العمل البشري (علاقات سياسية تاريخية بين بعض البلدان، مصالح متبادلة... إلخ)، إضافة إلى دور العوامل الذاتية في العمل السياسي (دور الأفراد والقوى السياسية والمجتمع المدني، وغيرها) من حيث مستوى وعيها ونضجها ودرجة تنظيمها. 

في مقابل هذا الفهم لمتطلبات العمل السياسي، نلمس بوضوح أن هناك نقطة ضعف لازمت الثورات منذ بداياتها وإلى الآن، تتمثل بغياب البوصلة السياسية الموثوقة. فقد كان، وما زال، نمط العمل السياسي المسيطر هو العمل على الطريقة "السبحانية"، وهو نمط عمل خاص بـ "الدراويش"، ويظهر في كل حركة وفعل ونفس، حيث لا وجود للخطط ولا لترتيب الأولويات ولا للحساب الزمني ولا للعلاقات المدروسة ولا حتى للتأمل ومراجعة الأداء، وقد تمت التغطية على هذا القصور وسلبياته في البدايات بفعل القوة الجارفة للثورات والزخم المتفائل الذي رافقها، لنكتشف تدريجًا أن الحقل السياسي المعارض لا يملك عدة ثقافية سياسية تزيد على تلك الموجودة لدى الأنظمة الحاكمة، وهذا يفسِّر حقيقة أن الرصيد الذي حققته الثورات داخليًا وخارجيًا بدّدته القوى والشخصيات السياسية تدريجيًا بصورة سلبية. 

في الحقيقة، تعدّ "السياسة" من أعقد وأصعب الأعمال والعلوم البشرية، وهي لا تحتاج إلى الشهادات بالضرورة، إنما بشكل أساس إلى المعرفة أولًا؛ بعض المعرفة بالتاريخ والجغرافيا والواقع وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس والفلسفة، وربما المعرفة بالرياضيات والفيزياء والفن والأدب والحب أيضًا. وتحتاج ثانيًا إلى إعادة تربية الذات على مجموعة من الصفات الضرورية، مثل الصبر والتأمل والهدوء النفسي والتحكم في العواطف والحسّ العالي والذاكرة القوية ومعرفة البشر والإخلاص للحقيقة الواقعية. هذا بالطبع إن أردنا إنتاج ممارسة سياسية مختلفة عمّا هو سائد في مستوى الأنظمة الحاكمة التي لا تملك إلا التاج والصولجان والأجهزة القمعية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها