السبت 2021/03/27

آخر تحديث: 08:04 (بيروت)

رجوع الشيخ إلى صباه!

السبت 2021/03/27
رجوع الشيخ إلى صباه!
increase حجم الخط decrease
بحسب الصفحة التي تحمل اسمها على فايسبوك، تعقد الجبهة الوطنية الديموقراطية-جود مؤتمرها "التأسيسي" بتاريخ 27-28 آذار الحالي، في مكتب "هيئة التنسيق الوطنية" في دمشق، وهو ما تنقله الصفحة عن حسن عبدالعظيم المنسق العام للهيئة. في التفاصيل، الجبهة لم تطلب ترخيصاً لاجتماعها من سلطة الأسد، ولا يُستعبد طبعاً أن تبادر المخابرات إلى منع انعقاده، أو إلى اعتقال الذاهبين إليه أو البعض منهم. 

ينفي المنظّمون العمل بضوء أخضر من أية جهة دولية، موسكو تحديداً، وعدم طلبهم الإذن لعقد مؤتمرهم يضعونه في سياق موقفهم الذي لا يعترف بشرعية السلطة. هناك ممثلو سفارات مدعوون إلى المؤتمر، وهؤلاء "في حال حضورهم" سيكونون من الدول التي تحتفظ بتمثيل دبلوماسي في دمشق، مع ما يعنيه ذلك من دون تحميل الجبهة مسؤوليته. الأخيرة يُفترض أنها مسؤولة فقط عن برنامجها المعلن، والذي اجتمع عليه 18 تنظيماً بينهم عشرة من مكونات هيئة التنسيق، يُضاف إليهم بعض المستقلين. 

العمل على الرؤى النظرية وعلى اللائحة التنظيمية استغرق نحو سنة، والجانب النظري يرتكز بشكل أساسي على بيان جنيف1 لعام2012، والقرار 2254 لعام2015، بما يكفل إنهاء نظام الاستبداد القائم بكل رموزه ومرتكزاته، والمساهمة بإنجاز التغيير والتحول الديموقراطي، كما جاء في نص الوثيقة. تطالب الوثيقة أيضاً برحيل كافة الجيوش والميليشيات غير السورية، وبتفكيك الميليشيات المسلحة، وإعادة هيكلة أجهزة المخابرات وببناء جيش وطني مُحيَّد عن السياسة. وإلى جانب ذلك، تطالب بوقف إطلاق النار وإطلاق سراح المعتقلين، والعمل على تحقيق العدالة الانتقالية، عطفاً على رؤيتها أن الحل السياسي هو الحل الوحيد الناجع، وتقترح إشراف الأمم المتحدة على وقف مسار الاحتراب وما يليه. 

تشير الوثيقة إلى أن سوريا جزء من الوطن العربي، وعضو مؤسس في الجامعة العربية، وتنص أيضاً على أن القضية الكردية مسألة وطنية سورية، ويتوجب إيجاد حل ديموقراطي ودستوري يعترف بالحقوق القومية والثقافية والاجتماعية المشروعة للأكراد في إطار سيادة ووحدة سوريا أرضاً وشعباً. يُذكر أن الحزب التقدمي الكردي وحزب الوحدة الكردي من بين التنظيمات المدعوة، بينما هناك أنباء عن فشل المفاوضات مع مسد بسبب موقف الأخيرة من موضوع حل الميليشيات ومستقبل قسد والإدارة الذاتية عموماً.

الاقتباسات السابقة تشير إلى أن وثيقة الجبهة الجديدة لا تفترق عما يطالب به طيف من المعارضة، بما في ذلك من كانوا يوماً من المتحمسين للحسم العسكري وأجبرتهم التطورات الميدانية على القبول بما هو مطروح عليهم دولياً، والمطروح اليوم في أقصى حالاته ليس بيان جنيف ولا تطبيق القرار 2254 بحذافيره. أي أن الجبهة تطرح سقفاً قد يكون الأعلى، والتحفظات عليه ستأتي من أطراف كردية تطمح إلى نوع من اللامركزية يُبقي على قسد وعلى الإدارة الذاتية.

إلا أن ما وراء السطور، وهذا مؤثر لدى المنخرطين في الشأن السوري، قد تكون له أهمية تفوق الوثيقة النظرية بمجملها، من ذلك مثلاً ما تنقله صفحة الجبهة على فايسبوك من حوار أُجري مع جون نسطة عضو اللجنة التحضيرية للمؤتمر. جواباً لسؤال عن الدافع وراء إنشاء جسم معارض جديد مع امتلاء الساحة بأجسام قديمة، يصوّب السيد نسطة على تلك الهيئات بالقول: "الساحة السياسية المعارضة، كما جاء في سؤالكم، غصت بالكثير من التجمعات والمنصات والمنابر، منها الوطني الديموقراطي، ومنها ما ربط قراره ومصيره بدول اقليمية او دولية، ومنها أيضاً من عانى من الفساد وتقاسم الغنائم، ومنها من تبنى فكراً دينياً أو طائفياً أو عشائرياً، ومن هنا تشكلت فجوة كبيرة، وحاجة موضوعية لتشكيل جبهة وطنية ديموقراطية". ثم يضيف: "المجتمع الدولي بكامله لم يكن له الثقة بالتشكيلات، التي ادّعت بأنها (الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري)، والتي كانت تؤمن بالحل العسكري، وترعى إلى الآن فصائل عسكرية، وهي ايضا تضم في صفوفها بالدرجة الأولى قوى الإسلام السياسي، وبعض الشخصيات الانتهازية التي تسعى إلى الشهرة وحب الأضواء.  ولذلك لم تشكل، بعين المجتمع الدولي، البديل المرتجى للنظام القائم. وهذا ايضاً شكّل ضرورة، لقيام جبهتنا الوطنية الديموقراطية. الشعب السوري لم يعد يثق بالمعارضة الخارجية، معارضة الفنادق ذات النجوم الخمس، وشاشات التلفزيونات، والتي كذبت عليه ووعدته بالتدخل الخارجي لدول الناتو، وغيرها من الوعود الخلبية".

قد يصحّ الكثير من أقوال السيد نسطة واتهاماته، إلا أن التقسيم بين معارضة خارجية وداخلية في بلد هُجِّر ثلث سكانه على الأقل، وغير ذلك من أوصاف ميّزت خطاب هيئة التنسيق طوال سنوات، هذه الأقوال تكشف عن ثأر قديم أكثر مما تشي بجديد مُنتَظر من الجبهة الجديدة. بل إنه لا يعزو نهج الذين يهاجمهم إلى الخطأ، هم "وفق إجابة تالية" الثورة المضادة التي سرقت الانتفاضة الأولى وحوّلت مسارها السلمي. ومشكلة هذا الخطاب "المتخفي وراء وثيقة تأسيسية يصعب الاختلاف حولها" أنه ينزع عنها مسبقاً إمكانيتها كخطاب جامع، ويوحي بأنها مجرد غطاء لعداوات قديمة، وبأنها أيضاً غطاء لمظلومية أصحابها الذين يدّعون أن الثورة سُرقت منهم من دون أن يقدّموا مراجعة لتقصيرهم في تحصينها من السرقة المزعومة، ومراجعة عميقة وجادة لأسباب فشل النضال السلمي، وبناء عليها تقديم اقتراحات عملية وممكنة لاستئنافه؛ هذا إذا جارينا الزعم المضمر بتأثير بارز لهم في مرحلة المظاهرات السلمية. 

مؤسف أن نقتبس عنوان "رجوع الشيخ إلى صباه" للدلالة على حال معارضة هرمة، تبني أمجادها المتوهمة على فشل الآخرين الذين ليسوا أحسن حالاً منها، ولا ترى في الفشل السوري مسؤولية مشتركة، إن لم تكن في المسؤولية عن الفعل فهي في المسؤولية الواقعية عن آثاره بصرف النظر عن مرتكبيه. لقد كانت المعارضة "ذاتها تقريباً" موجودة قبل الثورة "أو الانتفاضة أو أي توصيف آخر"، وظلت موجودة أثناء الثورة بل شاركت في هيئات مشتركة مع "أقطاب الثورة المضادة"، وها هي اليوم تسترجع صباها وخطابه كأنما لم يستجد شيء باستثناء بيان جنيف وقرار مجلس الأمن كمرجعيتين لا فضل لأية هيئة معارضة في صدورهما.

في المقلب الآخر، الموصوف بالثورة المضادة، كانت الهيئات الوليدة للمعارضة قد شاخت سريعاً، بعدما ولدت وهي تحمل الأمراض المزمنة للمعارضة السورية القديمة، وفوقها بعضٌ من الثقافة التي برعت الأسدية في غرسها لدى الكثير من السوريين. هذه المعارضة الهرمة استفاقت مؤخراً، بعد عشر سنوات فقط، على إقرار "ميثاق الثورة السورية لحقوق الإنسان والحريات العامة" الذي ينظّم الائتلاف الوطني ندوات تمهيداً لإقراره. 

يتلو ويناقش أحد الحاضرين في تسجيل للندوة الأولى فقرة تنص على عدم جواز إنشاء سوى نقابة واحدة لتنظيم مهنة أو حرفة على مستوى "القطر"! هكذا، يمر تعبير "القطر" ضمن الحديث باعتيادية وانسيابية، وكأنه ليس من العدة الأساسية لخطاب البعث. ثم لن تكون الطامة الكبرى مُستغربة، فممثل الائتلاف، الذي يشدد على أولوية حقوق الإنسان غير القابلة للمس والتعديل، ينوّه بأن "مناطقنا- أي المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد" لا تشهد انتهاكات ممنهجة. إنها "إذا وجدت" مجرد تصرفات فردية، ولنا أن نستنتج توافق قوانين جبهة النصرة في إدلب مع شرعة حقوق الإنسان، وكذلك الأمر مع انتهاكات "العمشات" وغيرها من الفصائل المسيطرة على عفرين، ولنا أن ننسى عدم قدرة هذه المعارضة "إذا سلمت نواياها" على تطبيق ميثاقها في أية بقعة يسيطر عليها أي فصيل.

ثمة مصيبتان، لا على جانبي المعارضة فحسب، بل في ما يجمعهما وهما تحاولان تجديد شبابهما؛ في الغالب يكون التصابي نسخة مشوَّهة عن الصبا، فكيف إذا كان الشباب في الأصل ممسوخاً وقبيحاً؟ وإذا كانت الميزة الوحيدة، التي لا فضل لهما فيها، هي البشاعة المطلقة لدولة الأسد؟ 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها