الخميس 2021/03/25

آخر تحديث: 08:02 (بيروت)

الأمريكيون في "ديزني لاند – إدلب"

الخميس 2021/03/25
الأمريكيون في "ديزني لاند – إدلب"
increase حجم الخط decrease
تقول الأخبار الشحيحة المتوفرة، إن فريقاً من صحافيي "نيويورك تايمز" الأمريكية، تجول قبل يومين في شوارع مدينة إدلب، بحماية من عناصر الأمن التابعين لـ "هيئة تحرير الشام". وأن الفريق قضى، في ما يبدو، وقتاً لطيفاً، في مطعم "ديزني لاند"، الذي يُوصف بأنه من أفضل مطاعم المدينة، والذي يضم صالة ألعاب افتراضية  للأطفال.

وفيما يتلمس الأمريكيون خطاهم في إدلب، التي تبدو مثيرة لصحافييهم، وموضع خلاف وريبة لسياسييهم، تواصل روسيا ترسيم أمرٍ واقعٍ، قد يصعب الفكاك منه مستقبلاً، حتى لو قررت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن -بعد إنهاء مراجعتها لسياستها في سوريا- أن الأخيرة، مهمة لأمن بلادها القومي. 


فاتفاق فتح المعابر الثلاثة، بين شمال غرب سوريا، وبين مناطق سيطرة النظام، يخدم مصالح جميع الأطراف المعنية به، على المدى القريب، لكنه قد ينال من مصالح غالبية كبرى من سكان تلك المنطقة، ومن أمنهم الغذائي والحياتي، على المدى البعيد.


فـروسيا، التي تريد إنعاش اقتصاد النظام، و"ليرته" المتهاوية، عبر سوق العملة الحرّ في إدلب، تحقق بفتح المعابر، هدفاً آخر، أبعد، وأكثر خطورة، يتعلق بإزالة آخر تبرير لتمرير المساعدات الإغاثية الدولية عبر الحدود الخارجة عن سيطرة النظام. وحتى لو التزمت موسكو، بما قيل إنه وعد -قُدّم للأتراك- بعدم استخدام الفيتو ضد تمديد القرار الدولي بتمرير المساعدات عبر معبر باب الهوى بإدلب، بعد ثلاثة أشهر، فإنها ستبقى ممسكة بهذه الورقة في المستقبل الأبعد، وقد تستخدم الفيتو لاحقاً، بعد ستة أشهر، أو سنة، حينما يحين موعد "التمديد" اللاحق. فالمساعدات الإغاثية الدولية، كانت، وما تزال، ورقة رابحة للغاية لنظام الأسد، من الجانب الاقتصادي. إذ تذهب تقديرات إلى أن المساعدات الأممية التي تمرّ عبر "دمشق"، تتراوح بين 1 إلى 1.2 مليار دولار سنوياً، يستولي مسؤولو نظام الأسد على حصّة كبيرة منها.


ومع تفاقم أزمات النظام الاقتصادية، وضع عينه على الحصة المحدودة من تلك المساعدات التي تذهب إلى شمال غرب سوريا، والتي تُقدّر بـ 120 ألف سلّة غذائية شهرياً، ناهيك عن مشاريع البنى التحتية التي تديرها وكالات الأمم المتحدة هناك. وهكذا، في حال نجح المسعى الروسي بفتح المعابر الثلاثة، واستقرت الحركة التجارية والبشرية من خلالها، مع الزمن، سيكون لدى روسيا، مستقبلاً، مبرر قوي أثناء المماحكات الدبلوماسية التي تجري في كل جلسة لمجلس الأمن، أثناء تمديد قرار تمرير المساعدات عبر الحدود. وسيقول الروس أن لا مبرر لتمديد جديد لهذا القرار، ما دام هناك معابر مستقرة، يستطيع النظام من خلالها نقل المساعدات للمحتاجين في المناطق الخارجة عن سيطرته. وبذلك، تخطط روسيا لاحتكار المساعدات الأممية لصالح نظام الأسد، على المدى البعيد. وهو أمر يهدد ملايين السوريين القابعين في شمال غرب سوريا، والذين تعيش شريحة كبرى منهم، على المساعدات الأممية.


لكن الهدف الروسي، بعيد المدى، لا يبدو أنه يعني الأطراف الأخرى المعنية باتفاق المعابر الأخير. بل على العكس، وتحديداً في حالة "هيئة تحرير الشام"، يبدو أن موسكو تعمل على الموجة ذاتها. فالهيئة التي حاولت مرتين على الأقل، فتح معابر مع مناطق سيطرة النظام، خلال العام الفائت، قبل أن تتراجع تحت الضغط الشعبي الرافض لذلك، تصبو نحو مكسبين هامين على المدى القريب. إيرادات المعابر، وتنشيط الحركة الإنتاجية والتجارية في المنطقة التي تسيطر عليها، والتي باتت تقبض على معظم مفاصلها الحيوية عبر مؤسساتها الاقتصادية، وأبرزها "المؤسسة العامة لإدارة النقد"، التي أسست بدورها، نهاية الشهر الفائت، شركة "نماء للاستثمار"، التي شبهها بعض النشطاء بـ "شركة شام القابضة"، في تذكير بسيطرة رامي مخلوف، سابقاً، على معظم الاقتصاد السوري، قبل أكثر من عقد. ولا تبدو تشبيهات النشطاء تلك، تجنياً على "تحرير الشام"، فتجربتها مع "وتد للبترول"، التي تسيطر على سوق المحروقات بالمنطقة، رغم طرح شركتين منافستين لها، نظرياً، تؤشر إلى أن مخاوف أولئك النشطاء، مبررة.


وبالعودة إلى اقتصاد المعابر، الذي سبق أن أثرى جيوب مسؤولي "هيئة تحرير الشام"، حينما كانت تسيطر على معابر "مورك – قلعة المضيق" بريف حماة، و"العيس – المنصورة" بريف حلب، قبل أن يقضم نظام الأسد تلك المناطق، تشير دراسة صدرت منذ سنة عن مركز حرمون للدراسات، أن معبر العيس قبل إغلاقه -كمثال- كان يحقق إيرادات يومية، من رسوم عبور الشاحنات، ما مجموعة 50 إلى 100 ألف دولار. أي بوسطي 1.5 إلى 3 مليون دولار شهرياً. تلك الإيرادات يمكن مضاعفتها في الطرف الآخر، لدى نظام الأسد. تلك الأرقام توضح لنا صورة أولية عن المكاسب المالية المرتقبة على المدى القريب، والتي ستجنيها  "تحرير الشام"، وكذلك نظام الأسد، حال فتح  معبَرَي سراقب وميزنار، شرقي إدلب، ودوران عجلة التجارة عبرهما.


تلك هي المكاسب قريبة المدى، والاقتصادية. أما المكاسب السياسية، فتبدو تعزيزاً لمساعي "هيئة تحرير الشام"، منذ أكثر من سنة، لتقديم أوراق اعتمادها لدى كل من موسكو وواشنطن وأنقرة، عبر التناغم مع مصالح هذه الأطراف. وبالإشارة إلى أنقرة، فإن لها أيضاً مكاسب قريبة المدى، من اتفاق المعابر، تتعلق بتنشيط تدفق البضائع التركية إلى الأسواق السورية العطشى في المدن الكبرى الخاضعة للنظام. خاصة أن تلك البضائع لن تمر مباشرةً عبر معابر بين تركيا والنظام، بصورة تجعل الأولى عُرضة لقانون "قيصر". 


ومع انسياب تلك البضائع، ودوران عجلة التجارة، سيعيد نظام الأسد إحياء معادلته الرابحة القديمة، وهي الحصول على الدولار من إدلب، وتمرير الليرة السورية إلى أسواقها. ومع وجود تجار في شمال غرب سوريا، يعنيهم بصورة رئيسية، مصالحهم، لا يبدو أن هناك حاجزاً منيعاً أمام عودة انسياب الليرة السورية إلى الأسواق في المنطقة، رغم اعتماد الليرة التركية كعملة أساسية للتداول. وما يؤكد تلك الاحتمالية، هو استمرار وجود الليرة السورية في الأسواق، وإن بنسب تداول محدودة، رغم انعدام الحاجة إليها، خلال العام الفائت، مع إغلاق المعابر بين الجانبين. لذا، فمن المتوقع، أن تنساب الليرة السورية بصورة أكبر إلى أسواق شمال غرب سوريا، مع دوران عجلة التجارة، في المستقبل القريب.


لكن ماذا عن سكان تلك المنطقة؟ هم بطبيعة الحال، الطرف الأضعف في هذه المعادلة، لكن في الوقت نفسه، فهناك فئة منهم، ستستفيد هي الأخرى على المدى القريب، من تنشيط حركة التجارة، وعودة الطلب من جانب التجار في مناطق سيطرة النظام على السلع والبضائع المُنتجة في شمال غرب سوريا، مما سيعزز قطاع الإنتاج والتصدير مجدداً، وينعش الاقتصاد المحلي. لكن في الوقت نفسه، من المتوقع أن يؤدي انتعاش قطاع التصدير، إلى ارتفاع الأسعار، لتكون الفئة المرتكزة على المساعدات، هي المتضرر الأكبر في نهاية المطاف.


وفي الختام، فإن افتتاح المعابر الثلاثة، واستقرار الحركة التجارية عبرها، يحمل خطراً بعيد المدى، على سكان شمال غرب سوريا. ويبقى السؤال في الأيام القليلة القادمة: هل يستطيع الرفض الشعبي إفشال الاتفاق الجديد، كما سبق وأفشل مساعي هيئة "تحرير الشام" لفتح المعابر؟ قد تكون الإجابة هذه المرة عسيرة. فالهيئة التي خشيت السخط الشعبي، فتراجعت عن خطواتها بهذا الخصوص، خرجت من الواجهة، لتحل محلها روسيا. تلك التي استبقت الاتفاق بحملة تصعيد عسكري، قدمت "عيّنة" عما يمكن أن يحدث إن لم يتحقق ما تريد. ووسط موازين القوى والمصالح الراهنة، يبدو أن الأمريكيين وحدهم، القادرون على إفشال المخططات الروسية. لكن الرهان عليهم، لطالما كان غير موفق. خاصة أنهم ما يزالون يكتشفون مواطئ أقدامهم في إدلب، ويلهون في أحيائها ومطاعمها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها