السبت 2021/03/20

آخر تحديث: 21:39 (بيروت)

واشنطن تؤكد وطهران تنفي

السبت 2021/03/20
increase حجم الخط decrease

في احدى الجلسات الاسبوعية للمتحدث الرسمي باسم الخارجية الايرانية اواخر شهر نيسان/ابريل 2005 في اواخر الدورة الثانية للرئيس محمد خاتمي، وكان حينها السفير حميد رضا آصفي من يتولى هذه المهمة. دار جدل واسع حول ما اشيع عن حصول او عدم حصول مصافحة بين الرئيس الايراني والرئيس الاسرائيلي موشي كتساف (او قصابيان حسب سجلات النفوس الايرانية في مسقط رأسه في مدينة اردكان وهي ايضا مسقط رأس خاتمي في محافظة يزد) على هامش تشييع جثمان الحبر الاعظم للكنيسة الكاثوليكية في العالم البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان في 9 ابريل/ نيسان 2005. وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذله آصفي والادارة الدبلوماسية الايرانية في توضيح هذه الاشاعات، لم تفلح في تقديم موقف واضح حول حقيقة ما حصل يومها. 

ومن باب المشاكسة، توجهتُ الى المتحدث باسم الخارجية وامام عدسات التلفزة الايرانية والدولية بسؤال واضح وصريح بالقول " لا ارى صعوبة او تعقيدا في تقديم اجابة واضحة بنعم او لا، هل حصلت المصافحة ام لم تحصل" وعلى الرغم من ذلك فان آصفي لم يقدم اجابة واضحة حول الحادثة وتركها في حالة من الغموض الايجابي الذي يفتح الاحتمالات يؤكد الواقعة وينفيها في الوقت نفسه. 

هذه الحادثة، واسلوب التعاطي الايراني الرسمي معها، يقدم مدخلا لفهم العقلية الايرانية في التعامل مع اي مستجد او حدث سياسي او عقائدي، وتكشف مدى التعقيد وتعدد المستويات في التفكير الايراني عند بناء اي موقف سواء كان بسيطا او استراتيجيا. وقد استطاعت هذه العقلية اجتراح نمط جديد في التعامل الدبلوماسي مع الازمات التي شهدتها منطقة الشرق الاوسط، خصوصا دول الجوار الايراني في العراق وافغانستان، يقوم على تكريس مبدأ الحياد الايجابي الذي بدأ يتبلور في السياسة الاستراتيجية الايرانية منذ معركة تحرير الكويت عام 1991 وتلاها في الحرب على افغانستان، ومن ثم في الغزو الامريكي للعراق عام 2003.وتحول في التسويغ الذي قدمه آصفي حول ما اشيع المصافحة المحتملة بين خاتمي وكتساف الى تقديم مفهوم جديد هو "الغموض الايجابي" الذي ترك الباب مفتوحا على جميع الاحتمالات.

هذا الغموض الايجابي، هو ما تمارسه الدبلوماسية الايرانية حاليا في التعامل مع ازمة الحوار مع الادارة الامريكية حول الاتفاق النووي كمدخل لمسار تفاوضي اوسع في المستقبل يشمل كل قضايا المنطقة والقضايا الاشكالية بينها وبين واشنطن ان كان على صعيد البرنامج الصاروخي او حدود وابعاد وادوار النفوذ الاقليمي. 

ففي الوقت الذي تصر الادارة الامريكية على تأكيد وجود قنوات تواصل غير مباشرة مع طهران، واحيانا الايحاء بوجود تواصل مباشر على مستوى الخبراء، تنفي ايران الرسمية، وتحديدا وزارة الخارجية، اي نوع من مستويات التواصل او الحوار المباشر وغير المباشر، وتكتفي بالحديث عن رسائل تصلها من الادارة الامريكية عبر اصدقاء مشتركين يطمحون للعب دور في تخفيف التوتر القائم بين الطرفين، وان ابرز هؤلاء الاصدقاء دول الترويكا الاوروبية الشريكة في الاتفاق النووي على الرغم من اتهام ايران لهذه الدول بانها مارست دورا سلبيا في التماشي مع مفاعيل القرارات التي لجأت اليها ادارة الرئيس السابق دونالد ترمب، ولم تكن حريصة على تمكين ايران في الخروج من تداعيات الحصار الاقتصادي الذي فرضته واشنطن، وان هذه الدول عليها الاعتراف بالفضل الايراني الذي حافظ على الاتفاق النووي وقطع الطريق على انهياره بالكامل. او حسب تعبير الوزير محمد جواد ظريف في خطابه للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بان ايران هي التي ابقت الاتفاق حيا. 

وبغض النظر عن حاجة طهران لابقاء الاتفاق النووي على قيد الحياة، لمعرفتها باستحالة الحصول على اتفاق مشابه واقل ضررا لها في حال انهياره، فانها تبدو اكثر اصرارا على التمسك بشروطها حول آليات العودة الى احيائه بخطوة امريكية ترفع العقوبات التي فرضتها ادارة ترمب بكل مستوياتها المتعلقة بدعم الارهاب وحقوق الانسان والاخطار النووية والصاروخية او تلك التي ترتبط بالنفوذ الاقليمي، وهو ما ترفضه الادارة الامريكية الجديدة كونه يقدم لايران كل ما تريد في اطار قرار مجلس الامن الدولي 2231، ويعيدها الى المجتمع الدولي من دون تقديم ضمانات او تعاون حتى لا يقال تنازل، ولان معادلة عودة واشنطن الى الاتفاق مقابل تراجع ايران عن خطوات تقليص التزاماتها التي لجأت اليها ردا على العقوبات لا تساعد في تطوير الاتفاق او فتح الطريق امام بحث جدي في الملفات العالقة التي تشكل مدخلا لحصول واشنطن وحلفائها في منطقة الشرق الاوسط على ضمانات تتعلق بأمنهم وحدود التدخل الايراني في شؤونهم الداخلية وما فيها من تهديد لاستقرار دولهم.

وعلى غرار ما حصل في ايران عام 1982 بعد معركة خرمشهر (المحمره) واستعادتها من الجيش العراقي، والجدل الذي حصل داخل اروقة القرار بين اطراف تدعو للاستجابة للدعوات الدولية وحتى العراقية والعربية لوقف الحرب وما فيها من تحقيق مكاسب سياسية وتعويضات مالية، وبين اطراف تمسكت باستمرار الحرب حتى اسقاط النظام العراقي وتسليم هذا البلد الى حلفاء لهم. وشكل انتصار الطرف الثاني الى تمديد الحرب لمدة ثماني سنوات انتهت بهزائم متلاحقة للقوات الايرانية والقبول بقرار مجلس الامن رقم 598 من دون قيد او شرط وعدم التطرق الى اي تعويضات مالية. يبدو ان هذه العقلية مازالت مهيمنة في مراكز القرار، وهذه المرة في ما يتعلق بالاتفاق النووي واعتقاد القدرة على إلحاق هزيمة بالادارة الامريكية وإجبارها على تقديم تنازلات تكتيكية واستراتيجية، ما جعل المخاوف في الداخل الايراني ترتفع من امكانية استعادة تجربة الحرب العراقية ما بعد خرمشهر، وان تنتهي الامور الى تقديم تنازلات لا تقف عند القبول بالعودة الى الاتفاق ضمن الرؤية الامريكية للحل، بل ان تتجاوزها لتصل الى تنازلات في كل المجالات الداخلية والاقليمية والعسكرية. لعل هذه المخاوف هي التي دفعت الرئيس حسن روحاني في الجلسة الاخيرة للحكومة الى رفع الصوت عاليا بوجه المعطلين في الداخل والتلويح بانهم سيدفعون الثمن جراء اصرارهم على استمرار العقوبات وتعطيل اي فرصة للحوار والحل مع واشنطن والمجتمع الدولي. 

وكما حدث في مسألة الحرب بعد استعادة خرمشهر، تتكرر الاحداث مع الاتفاق النووي، اذ يعمد المعطلون لمسار الحوار والذين يرفعون سقف التشدد لمنع الحكومة من القيام باي خطوة باتجاه الحل، الى توظيف الازمة في معركة داخلية تتعلق بمسألة السيطرة على السلطة ومنع الفريق المعارض لهم تحقيق اي انجاز او تقدم قد يصب في سياق تعزيز حظوظه السياسية والانتخابية. وهم على استعداد للمقامرة بكل الاشياء من اجل تحقيق اهدافهم، ولا يعنيهم الصفوف الطويلة للايرانيين الذين يقضون ساعات طويلة من أجل الحصول على بضعة كيلوغرامات  من لحم الدجاج المدعوم، وهي ظاهرة لم تحدث خلال الحرب العراقية وسياسة التقنين التي كانت متبعة ومعتمدة من حكومة ادارة الحرب حينها برئاسة مير حسين موسوي. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها