الأربعاء 2021/12/15

آخر تحديث: 10:33 (بيروت)

تونس والبناء القاعدي: مختبر التجارب الدستورية

الأربعاء 2021/12/15
تونس والبناء القاعدي: مختبر التجارب الدستورية
الأرجح أن التجارب المرتجلة في نصوص الدستور لن تفضي إلى حل للأزمة السياسية (غيتي)
increase حجم الخط decrease

قبل يومين، أعلن الرئيس التونسي أخيراً خريطة طريق، سلسلة من الخطوات المؤرخة لطرح دستور جديد للاستفتاء أو على الأقل إجراء تعديلات جذرية على الدستور المجمد بحلول منتصف العام المقبل، وإجراء انتخابات برلمانية مع نهايته. بهذا الإعلان يضع قيس سعيد سقفاً زمنياً لحالة اللايقين القائمة، ويطرح وعداً ضمنياً بالرجوع إلى المسار الديموقراطي.

إلا أن حزمة الإجراءات المعلنة لا تبدو كافية لطمأنة معارضي الرئيس أو مؤيديه. فاللجنة المفترض بها مناقشة المقترحات الدستورية وصياغاتها، لم تُحدد طريقة اختيار أعضائها ولا اختصاصاتها، أما الشروع في اجراء استشارات شعبية مباشرة حول الدستور في المعتمديات وعبر الانترنت، فغير أن آلياتها تبدو شديدة الضبابية وعصية على التفعيل إجرائياً وتقنياً، فإنها تعني أيضاً تحييد دور المنظمات الفاعلة، مثل "اتحاد الشغل" والأحزاب، واستثناءها من الحوار الوطني. ومع ما تتضمنه الخطوات المعلنة من إشكاليات، فإنها تظل، في جانب منها، وفاء لوعود الرئيس الانتخابية. فبحسب قيس سعيد، ومنذ حملته الرئاسية، أزمة تونس دستورية في جوهرها، وحلّها يكمن في اعتماد نظام رئاسي وبُنية ديموقراطية قاعدية، ويمكن التخمين بأنها بُنية تضمن التفاعل المباشر مع المواطنين من خلال مؤسسات جهوية، تغلّب التمثيل المحلي على الحزبي. ويدفعنا هذا للتساؤل إن كانت المعضلة حقاً في الدستور؟ وإن كان ما يطرحه سعيد يمكن أن يكون حلاً لها؟

تمخضت عشرة أعوام من الثورة التونسية، عن بُنية نموذجية للدولة، أي طبقاً لمحددات الديموقراطية التمثيلية ومؤسساتها المعنية بتفعيل آليات توازن السلطات. فرَض الانتصار المطلق لليبرالية الغربية، هيمنته على مخيال الانتفاضات العربية جميعها. فالنماذج المتاحة لتصور علاقات الدولة بالمجتمع وبُنية تلك الدولة، غدت محدودة جداً وشبه ثابتة، مع تنويعات على أنظمة رئاسية أو برلمانية أو خليط من هذا وذاك. وما ينسحب على البُنية التنظيمية للدولة، ينطبق على الاقتصاد أيضاً، فحتى الفوارق بين النماذج الاقتصادية داخل الديموقراطية بمفهومها الغربي، أخذت في التلاشي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وتقلصت دولة الرفاه مع فرض المنطق النيوليبرالي لهيمنته على السياسات العامة للدول والمنظومة المعولمة للاقتصاد.

كانت الانتفاضات العربية، وفي مقدمتها الثورة التونسية، حركات احتجاج شعبية تفتقد للعمق الايديولوجي والتنظيمات القاعدية، وعطّل ذلك قدرتها على طرح بدائل راديكالية، وانحصر الصراع في أبعاد هوياتية على محاور العلماني والإسلامي. وببساطة كانت العقيدة السياسية تتمثل في سقوط الاستبداد، وبالقدر نفسه اقتصرت القناعة الاقتصادية على الرغبة في القضاء على الفساد وتفعيل الشفافية والمنافسة الحرة. وفي تونس، أفرز ذلك بنية دستورية وقانونية مُحكمة على المستوى النظري، ومن الناحية العملية نجحت بالفعل في تقليص فرص استئثار أي طرف بالسلطة، وهو أيضاً ما قاد إلى تفتيت المشهد السياسي، ما شلّ عمل المؤسسات الديموقراطية في أحيان كثيرة. وإجمالاً، لم تقدم بنية الدولة الجديدة أي تحوّل معتبر في شكل الاقتصاد، سوى الدفع نحو تحريره ودمجه في السوق العالمي.

في الظاهر، يبدو النموذج القاعدي، أي الديموقراطية المباشرة عبر بنى محلية، طرحاً جريئاً يوسّع أفق الخيال السياسي لما بعد الانتفاضات العربية. لكن، على مستوى عملي، فإن غياب الحوار حول تفاصيله وطرق تفعليه يمكن له أن يكون وصفة جاهزة لحكم الفرد مستنداً إلى إجراءات صُوَرية. فعلى سبيل المثال، ستنطلق المشاورات الشعبية حول الدستور في الأول من يناير/كانون الثاني المقبل، أي بعد أقل من أسبوعين من اليوم، فيما لا تتوافر أي تفاصيل عن طريقة إدارة تلك المشاورات المباشرة وجمع بياناتها واتخاذ قرار بشأن مخرجاتها وتحويلها إلى مشروع نص دستوري.

طرح بهذا الطموح يحتاج وقتاً للإعداد والتنفيذ، وإمكانات بنى تحتية وموارد غير متوافرة، أو على الأقل لا يمكن تجهيزها في خلال أسابيع. في الوقت ذاته، يفتقر ذلك الطرح الدستوري لأي تصور اقتصادي، فالأزمة التي تواجهها تونس اليوم تبدو اقتصادية في الكثير من وجوهها، ومع هذا فإن كل ما يطرحه إعلان سعيد الأخير، هو إعادة لخطاب مواجهة الفساد، باقتراح طوباوي لتحويل رؤوس الأموال الفاسدة لتمويلات استثمارية في المناطق المحرومة، من دون أي تفاصيل أخرى معلنة.

على الأرجح لن تفضي التجارب المرتجلة في نصوص الدستور إلى حل للأزمة السياسية، ولا الاقتصاد، إلا أن خريطة الطريق المطروحة وجدولتها زمنياً، ربما تُقدِّم محاور للجدل ونقاطاً مؤرّخة للارتكاز يمكن للاصطفاف السياسي أن يتلمس طريقه بواسطتها بعد شهور من التجميد الكامل للسياسة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها