الأربعاء 2021/10/27

آخر تحديث: 07:14 (بيروت)

السودان ومواجهته المؤجلة

الأربعاء 2021/10/27
السودان ومواجهته المؤجلة
في مواجهة الانقلاب، خرج آلاف السودانيين إلى الشوارع، لكن إلى متى يصمدون؟ (غيتي)
increase حجم الخط decrease
كان انقلاب العسكر في السودان متوقعاً. هذا ما سيقوله البعض. كل الدلائل كانت تشير إلى حدوثه منذ البداية، وفي الأسابيع الأخيرة على وجه الخصوص. تصريحات حميدتي عن رفض تسليم الداخلية والمخابرات للمدنيين، الإعلان عن انقلاب عكسري فاشل استهدف البرهان، اعتصام القصر المطالب بإقالة الحكومة المدنية... كان يمكننا توقع ذلك بسهولة، لكن ما جدوى الحكمة بأثر رجعي! فهي دائماً تأتي متأخرة.

بلا شك، قدم المدنيون التنازلات منذ البداية، وربما أكثر من اللازم. وضعوا أيديهم في أيدٍ ملطخة بدماء المتظاهرين، ورضوا بتقاسم للسلطة يعطي غلبة للعسكريين، وبإغفال ضمني لهم من الحساب. لكن ما الخيارات الأخرى التي كانت أمامهم؟ تحالف المدنيين كان متنافراً وهشاً ومؤقتاً بالتعريف. خليط من جماعات ثورية وأحزاب قديمة وأخرى جديدة، وقوى تمرد جهوية وإثنية مسلحة وشبه مسلحة، ونقابات مهنية ليست رسمية بالضرورة، ولجان أحياء، ووجوه عامة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وفي الشوارع، واجه المتظاهرون قوى مسلحة لا تتورع عن فتح النار على العزّل، وتاريخها المخزي لا ينتسب فقط إلى القمع، بل ويتعلق أيضاً بالإبادة. وعلى خلفية مئة قتيل في ليلة مذبحة القيادة العامة، تسارعت الوساطات الخارجية.

وفي بلد أنهكته عقود من العقوبات والاحتراب الأهلي، كانت المساومة مع العسكر حول حل وسط، هي الخيار شبه الوحيد المتاح لحقن الدماء، وبضمانة الوساطة الدولية، التي عرف الجميع أنه لا يمكن التعويل عليها، لكنها كافية لتمني حسن النوايا. اختار المدنيون تلك المقامرة، على الأغلب وهم بكامل الوعي لمخاطرها، ترحيل للمواجهة أو إنكارها إلى حين.

إلا أن التنازلات لم تقف هنا. جُرّ السودان جراً إلى اتفاق ابراهام، تحايل العسكريون من وراء ظهور شركائهم، ومدوا أيديهم إلى تل أبيب أولاً، ولم يستطع المدنيون أمام ضغط ضامنيهم الأميركيين والخليجيين، سوى الرضوخ لصفقة التطبيع مقابل رفع العقوبات، وحتى لا يتم نبذهم. وكان أسوأ ما تضمنته الشراكة مع العسكر، هو التسليم لوسطاء تلك الشراكة وشروطهم. وافقت حكومة حمدوك على دفع التعويضات الأميركية، ولجأت للاقتراض من صندوق النقد، ومن ثم اتّباع أجندته التقشفية المعتادة. كان لأي حكومة تكنوقراط أخرى أن تقوم بالمثل. وضع المدنيون أنفسهم بين شقي الرحى: العسكريون من جانب، والضامنون لاتفاقهم معهم من الجانب الآخر. وكان عليهم أن يتحملوا التبعات وحدهم، ولم يكن للنتيجة أن تكون مختلفة كثيراً عما حدث، وكان للانقلاب أن يحدث.

وكما أن الثورات يُلهم بعضها بعضاً، فالانقلابات مُعدية، ومنفذوها يتعلمون الواحد من الآخر. يدرك عسكر السودان، ونصب عيونهم النموذج المصري، أن التهديدات الغربية لا تعني الكثير على محك الواقع. في الموجة الثانية من الانتفاضات، تحايل النظام الجزائري على الحراك بأقل الخسائر الممكنة من الوجوه المنتهية. وفي العراق، أعادت المنظومة السياسية إنتاج نفسها بتبديل في نسب التمثيل. أما الانتكاسة التونسية، فكانت الضربة المعنوية الأكبر لما بقي من طموحات التغيير في المنطقة أو حتى ذاكرتها. ولعل الدرس الأكبر، الذي يمكن أن يتعلمه عسكر السودان من لبنان، فهو أن الاعتصامات المدنية لا تهددهم بالضرورة، بل وربما يمكن تحويلها لصالحهم، وبالقدر نفسه فإن هشاشة الدولة والتهديد بانفراط عقدها يمكن أن يكون سلاحهم الأقوى.

في مواجهة الانقلاب خرج آلاف السودانيين إلى الشوارع، وبدأ العسكر إطلاق النار، كما كان متوقعاً. وبعد أقل من يومين من الاحتجاجات، ها هي تصريحات البرهان بخصوص تواجد رئيس الحكومة في ضيافته، تشير إلى بعض التخبط. يمكن لاستمرار الاحتجاجات وتصاعد العصيان المدني أن يدفع العسكر إلى التراجع أو التفاوض، لكن المعضلة هي أن الحلول الوسط معهم لم تعد ممكنة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها