الثلاثاء 2021/01/19

آخر تحديث: 08:38 (بيروت)

لنركلْ ترامب على قفاه

الثلاثاء 2021/01/19
لنركلْ ترامب على قفاه
increase حجم الخط decrease
ما الذي سيفعله ترامب في ساعاته الأخيرة كرئيس؟ هذا سؤال يصلح مكان العنوان أعلاه، وإذا وقعنا في فخه ربما نتخيل مجموعة من الحماقات التي تبدأ بإشعال حرب صغيرة في مكان ما، وتنتهي بالضغط على الزر النووي بموجب ما يتخيله كثر عن الأخير كزر يطلق تلقائياً تلك الصواريخ المتأهبة. قد لا تراودنا تلك الخواطر، لا لقناعة بتعقل ترامب، بل لقناعة بأنه بات محاصراً منبوذاً، مجرداً من صلاحياته الرئاسية، وهذا فقط ما يمنعه من الانتقام لخسارته الانتخابات متسبباً بأسوأ الكوارث داخل الولايات المتحدة وخارجها.

لم يشعل ترامب حرباً في الأسابيع الأخيرة، كي يورط فيها بايدن، وأصدر أمراً بسحب دفعة جديدة من الجنود المنتشرين في أفغانستان والعراق. هذه مفاجأة أيضاً، ولعلها تنطوي على تلاعب بالأمن القومي الأمريكي، إذ لا يعقل أن نأخذ على محمل الجد مزاعمه الخاصة بعدم خوض حروب جديدة وبإعادة الجنود إلى البلاد. هو قبل ذلك، طيلة أربع سنوات من حكمه، لم يخض حرباً رغم لغته التصعيدية تجاه بعض الخصوم والمنافسين، وأذِن باستخدام قدر مضبوط من العنف في مرات محدودة على غرار اغتيال قاسم سليماني. تبرير عدم انزلاقه إلى مواجهات أشد جاهزٌ؛ إنها الدولة العميقة التي ردعته وروضت جموحه. 
 

يؤمن أنصار ترامب المتحمسون بأن الدولة العميقة أعاقت تنفيذ برامج ترامب "العظيمة"، مثلما يؤمن كثر من خصومه بأن الدولة ذاتها "تحت مسمى المؤسسات الديموقراطية" أعاقته عن تنفيذ حماقاته. يؤمن أنصاره بأن فوزه كان انقلاباً ديموقراطياً مستحقاً على تلك الدولة، مثلما يؤمن الخصوم بأنه كان سينقلب على الديموقراطية لولا رسوخها، ويسهل الاستدلال على ذلك بدءاً من طريقته الفجة في استخدام صلاحياته، وصولاً إلى غزوة الكابيتول. وهو، بسخاء نادر، قدّم الحجج القوية لخصومه بقدر ما خاطب غرائز أنصاره. 

غداً، ينتهي ذلك كله، ونركل الشرير على قفاه كما يليق بنهاية سعيدة لفيلم. وهو، لمعرفته بالحشد الضخم المتأهب لركله، سيغادر البيت الأبيض كأنه يتسلل منه بدل حضور مراسم تنصيب الرئيس الجديد. وقد يستمر موسم الركل إذا قرر عدد كافٍ من النواب الجمهوريين في مجلس الشيوخ مسايرة زملائهم الديموقراطيين والتصويت على عزله بعد مغادرته المنصب فعلاً، فهذا العزل "الشكلي" سيعقبه ركل ترامب من الحياة السياسية لأنه يتيح التصويت المضمون النتيجة على حرمانه من الترشح للمناصب العامة.

يُفترض بالعالم كله أن ينام مرتاحاً بعد تنصيب بايدن، وهو سيعزز الأجواء الإيجابية برزمة من القرارات التنفيذية التي تخص قضايا داخلية أو خارجية، ومنها العودة إلى اتفاق باريس للمناخ، وإبطال الحظر الذي فرضه ترامب على استقبال المسافرين من بلدان ذات غالبية مسلمة. بحسب الأخبار، شرع الرئيس الجديد في إجراء اتصالات مع طهران، ما يعني تبريد أسخن النقاط التي خلّفها له ترامب. سوف نرى صورة معكوسة عما حدث قبل أربع سنوات، عندما أصدر ترامب مجموعة من القرارات الأساسية التي تنقلب على نهج أوباما، من إلغاء برنامج الرعاية الصحية أوباما كير انتهاء بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وصل أخيراً الطيب ليمحو آثار الشرير.

البعض، على سبيل التظارف فقط، قد يتأسف على انقضاء عهد من التسلية مع رحيل ترامب بوصفه "القذافي" الأمريكي. الرئيس الجديد أكثر حصافة من أن يثني على رئيس آخر بوصف "ديكتاتوري المحبب" على نحو ما وصف ترامب السيسي، وأكثر لباقة من أن يصف رئيساً كيماوياً مثل بشار الأسد بالقول: إنه حيوان. قد يستقبل بايدن السيسي، بلا ثناء عليه، بل ربما يطالبه بتحسين وضع حقوق الإنسان في مصر، من دون تأثير لهذا الوضع على العلاقات بين البلدين. وقد يستنكر بايدن فظاعات جديدة يرتكبها بشار الأسد، مع تذكير الأخير بعدم وجود حل سوى الحل السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة. ولا ندري، ربما يكون لدى الرئيس سياسات خارجية طموحة، إلا أنه عاجز عن تنفيذها بسبب وقوع الأمم المتحدة تحت طائلة الفيتو الروسي والصيني، وهو يتمنى إصلاح المنظمة لكنه عاجز عن ذلك.
 

من السهل جداً أن نركل "الشيطان"، وهو قد أدى دوره بنجاح مطلق، وكان أشبه بعتبة واطئة يجتازها بالمقارنة مسؤولون غربيون آخرون، من دون التوقف عند كفاءاتهم وسياساتهم. الغالبية منا لا تتساءل أيضاً عن صناعة الشيطان، عن مقدار ما فيها من حقيقة ومقدار ما فيها من استثمار. ولا تتساءل عن أسباب بروز الشيطان، وعما إذا كانت الأسباب قد زالت بحيث لا يعاود الظهور من جديد. الفكرة الأسهل تقبلاً أن الديموقراطية الأمريكية صححت مسارها، أو قامت من كبوتها، وها هي تُظهر على نحو فاقع كل ما لا يشبه ترامب.

صار في وسعنا أيضاً، بعد أن ركلنا معاً ترامب، العودة إلى الخلافات المعتادة حول السياسات الأمريكية، والانقسام مجدداً بين من يربطونها بإدارة متغيرة ومعطيات تتبدل ومن يرونها تعبيراً عن جوهر الولايات المتحدة. لقد رحل من وحّد المتخالفين، بإظهار ملائكيتهم وحرصهم على الأمن والسلم الدوليين، بما يفوق خلافهم حول الديموقراطية نفسها.

هناك نكتة معروفة عن مريض ذهب إلى طبيب نفسي يشكو الكآبة الشديدة، فنصحه بتربية دجاج معه في الشقة الصغيرة، وعندما زاد الدجاج كآبته طلب منه إحضار عدد من الطيور، ثم طلب منه إضافة نعجة... وأخيراً طلب منه اقتناء ثور. كانت حالة المريض تتفاقم مع كل إضافة، فطلب منه الطبيب التخلص من الثور، ليشعر المريض بتحسن في مزاجه، وهكذا راح الطبيب يطلب منه التخلص من الحيوانات التي اكتظت بها الشقة، حتى فرغت منهم أخيراً وأحس المريض بالشفاء. لعل هذه النكتة لا تفقد صلاحيتها في علم نفس الجموع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها