الخميس 2021/01/14

آخر تحديث: 17:16 (بيروت)

التواصل الاجتماعي..حقٌ مكتسبٌ لا يحتمل التهديد

الخميس 2021/01/14
التواصل الاجتماعي..حقٌ مكتسبٌ لا يحتمل التهديد
increase حجم الخط decrease
بعد كورونا الذي يزعزع الحياة البشرية على كوكب الارض ويغير أنماطها وسلوكياتها، يمكن ان يحتل المرتبة الثانية على لائحة المخاطر الانسانية، ذلك التهديد الآتي من أميركا بالذات، بإعادة نحو ثمانية مليار إنسان الى ما قبل عصر الانترنت، والتواصل الاجتماعي المفتوح، الذي لا يخضع لأي شكل من أشكال الرقابة، بل يهزأ من سلطات المراقبة على تنوعها وتعدد مراتبها في مختلف أنحاء العالم.

النقاش الدائر في أميركا، التي لا تزال تحاول ان تتخطى إنقسامها العميق بين كتلتيين سياسيتين واجتماعيتين متساويتين الى حد ما ، لم يقدم حتى الآن ما يبدد ذلك الخطر، أو على الأقل ما يبعد سيف الرقابة والرقباء الذي إستُل في الكثير من بلدان العالم، بحجة حفظ الأمن والاستقرار..والحؤول دون أن يصبح غزو البرلمانات وإحتلالها وتعطيل عملها هو القاعدة والنموذج الذي يتكرر في كل عاصمة، إحتجاجاً على سقوط أي مرشح للرئاسة او حتى للبلدية..

وما يقال عن أن أميركا  الآن تضمد الجراح التي أصابها بها الرئيس دونالد ترامب، على مدى السنوات الاربع الماضية، وصولا الى غزوة الكونغرس المدوية، الاسبوع الماضي، لا يكفي لتبرير ذلك الموقف المشجع، والمتهاون مع قرار شركات ومنصات التواصل الاجتماعي حظر حسابات ذلك الرئيس المعتوه نهائياً، في خطوة إنتقامية كان يفترض أنه ليس لها مكان في أميركا، التي كانت تكلف نفسها بان تظل رائدة الحريات والمبشرة بها في جميع دول العالم.

الثأر هو سلاح العاجز عن المقاومة بالمنطق والعقل والحكمة، والحرية أيضا. وهو أيضا سلاح القوة الغاشمة ، التي لا تستخدم ضد فرد لم يحرم بعد، وربما لن يحرم من حقوقه المدنية ، بحكم من محكمة ما، بل تسيء وتستفز نحو خمسة وسبعين مليون ناخب إختاروه عن سابق تصور وتصميم، لكي يظل رئيسهم وحامي مصالحهم المباشرة. هؤلاء جميعاً، وهم في غالبيتهم الساحقة، لا يختلفون في السياسة والثقافة عن الناخبين في بلدان العالم الثالث، أخرجوا جميعا من فردوس التواصل الاجتماعي والسياسي العلني والحر، الى جهنم البحث عن وسائل بديلة للتعبير، لن تكون سرية فقط، بل قد لا تكون سلمية أيضاً. وهو ما يتعارض مع أبسط قواعد العمل في "أرض الاحلام" الاميركية، كما يتنافى مع أول قواعد علم النفس والسياسة والاجتماع، التي لا تحتمل أي شكل من أشكال الكبت والعزل والحرمان من حرية التعبير.

الحماسة التي أبدتها وسائل الاعلام الاميركية كافة، ومعها باحثون ومفكرون وسياسيون كبار ، لفرض الحظر على ترامب، وحرمانه من أهم وسائل الاتصال المعلن والمباشر مع جمهوره الذي يقارب نصف عدد الناخبين الاميركيين، لا تقوض فقط أسس الحلم الاميركي، بل هي تحط بأميركا الى مرتبة الدول العديدة التي كانت هدف التبشير الاميركي الدائم بالحرية والديموقراطية..برغم أن معظمها أنتج بعضاً من أسوأ أنواع الانظمة الدكتاتورية، المدعومة أو المؤيدة من قبل الاميركيين بالتحديد.

سؤال الحرية الذي لم يطرح إلا لماماً، في أميركا، من قبل نخبها الخارجة في عملية ثأرية مريعة ، عدا رئيس شركة تويتر جاك دورسي، الذي حذر من خطورة السلطة الاستثنائية التي تتمتع بها شركته، وأفسح المجال للتعبير عن شكوك خافتة في صوابية تلك الخطوة ونزاهتها وحياديتها، وحق شركات ومنصات التواصل الاجتماعي في ممارسة هذا النوع من الرقابة، التي يفترض انها حق من حقوق السلطات الشرعية المنتخبة.

منذ أن إنتخب ترامب رئيساً خطت الامبراطورية الاميركية خطوات واسعة الى الوراء، سواء على مستوى القيم والمثل التي كانت تفاخر بها، أو على مستوى الحروب والنزاعات التي خاضتها حتى مع أقرب حلفائها وأصدقائها بحجة الدفاع عن مصالح فئة مهمشة من مواطنيها.. الآن يبدو أن أميركا تقفز قفزة واسعة نحو التخلي عن زعامتها وريادتها العالمية ، في المجال الوحيد الذي لم يحتمل أي جدل، وهو الحرية الفردية المستمدة من الثورة التكنولوجية التي قادتها والتي حطمت جميع القيود التي عرفتها البشرية منذ قديم الزمان.

سلطات الرقابة والرقباء المنتشرون في مختلف بلدان العالم، هم اليوم في عيد، يحتفلون بإنتزاع تلك الحرية التي تمردت عليهم في العقود القليلة الماضية.. وحولت العالم الى قرية صغيرة، ينعم سكانها بحق جوهري مكتسب، من دون أن يخطر في بالهم  أن الاميركيين بالذات، هم من سيسلبون هذا الحق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها