الثلاثاء 2020/09/29

آخر تحديث: 16:15 (بيروت)

ماكرون سفيراً فوق العادة

الثلاثاء 2020/09/29
ماكرون سفيراً فوق العادة
ماكرون خلال مؤتمر صحافي عن لبنان (Getty)
increase حجم الخط decrease
كان يصحّ أيضاً إطلاق وصف "المفوَّض السامي" ماكرون، لولا إحالته إلى ماضٍ تحرص جماعة الممانعة على الاستشهاد به لوصم المبادرة الفرنسية. لقد تصرف ماكرون كمندوب سامٍ أو كسفير فوق العادة، لا كرئيس دولة من بين خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، دولة عضو في مجموعة السبع الكبار ودولة محورية ضمن الاتحاد الأوروبي. نعم، قلل ماكرون من قيمة منصبه، ومن الثقل المعنوي لبلاده، بالفشل لبنانياً على النحو الذي شهدناه خلال شهر انقضى. 

لقد اختار ماكرون بنفسه حجم الإهانة إذ زجّ بنفسه وبموقع الرئاسة في واجهة المبادرة، وكان في وسعه إطلاقها وإيكال أمرها إلى موظفين على قياس القيادات اللبنانية التي أبدى احتقاره لها قبل المبادرة وبعد فشلها. وقع ماكرون في فخ ما ظنَّ أنه مكسب خارجي متاح بسهولة، لا بسبب حسن ظنه بالقيادات التي سيتهمها لاحقاً بالخيانة الجماعية، وإذا كان حقاً قد أحسنَ الظن بها لوهلة فهذا فشل يُحسب عليه، هو الذي لم ينصت جيداً لما قاله له الشارع اللبناني في زيارته الأولى، ولما واظب الشارع على قوله منذ 17 أوكتوبر "كلن يعني كلن".

إذا كانت غاية المبادرة تسجيل نقاط، بإظهار حرص ماكرون على منع الانهيار اللبناني مقارنة بلامبالاة المتسببين به، فقد حدث هذا بلا شك. أما من منظور سياسي، فمن المستغرب حقاً إطلاق مبادرة من دون تهيئة وضمان نسبة معتبرة من أسباب نجاحها، ولفرنسا تاريخ حافل من الاشتباك مع التركيبة اللبنانية التي لم تتغير بأشخاصها إلا بخلل أكبر مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري. نفترض أن وزارة الخارجية والمخابرات الفرنسيتين لديهما الكثير لتقديمه للرئيس، فالذين عرقلوا تنفيذ الإصلاحات المنصوص عليها في باريس1 وباريس2 أيام الرئيس شيراك هم أنفسهم الذين عرقلوا المبادرة الحالية، وهم بالشراكة مع آخرين من التركيبة عاثوا فساداً بالمساعدات الواصلة آنذاك.

إذا اتسمت زيارة ماكرون الأولى إلى بيروت بشيء من الانفعال والعاطفية، من المفروض أن الزيارة الثانية أُعدّت بشكل مختلف، ولا ننسى أنها أتت بعد إصدار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لائحة اتهام ضد عناصر من حزب الله. أي، لا جديد يجعل ماكرون في مؤتمره الصحفي، المخصص للبنان قبل يومين، يكتشف مثلاً حزب الله كظاهرة مركّبة ومتماسكة على المستويين العسكري والسياسي، وانسجامُ الحزب مع أدواره الخارجية والداخلية سهلٌ على متابعي مسيرته، ومن السهل جداً عدم التعويل على فك الارتباط بين مختلف الأدوار، كما أن علاقته العضوية بطهران خارج التكهنات، طهران التي لا يرى ماكرون مؤشراً على حضورها لإفشال مبادرته!

ردُّ وزارة الخارجية الإيرانية على تصريحات ماكرون في مؤتمره الصحفي لم يتأخر، وفي ثناياه إنذار بالمرصاد لتعهد ماكرون باستمرار مبادرته وتلويحه بالمآل الأسوأ فيما لو أصر الذين أفشلوا جولتها الأولى على إفشالها. الرد الإيراني يرسم حدود التحرك الفرنسي المقبل، ويفرغ المبادرة من مضمونها كما حدث في الشوط الأول، بل يبني على مكتسبات الشوط الأول لانتزاع تنازلات فرنسية جديدة. نقرأ في الرد الإشارة إلى العقوبات الأمريكية، وما بين السطور هو القول لماكرون أن تسيير مبادرته رهن بقدرته على لعب دور الوسيط مع واشنطن ليس إلا، الدور المطلوب في حال التجديد لترامب في الرئاسة وقد تنتفي أو تتواضع الحاجة إليه في حال انتخاب بايدن.

من منظور سياسي بحت أيضاً، إذا كان المطروح جدياً على أركان السلطة الحالية التنازل أو الانهيار فسيفضّل المتحكمون بالسلطة الخيار الثاني، مع مراهنة "لا تخلو من وجاهة" على أن ترك البلد للانهيار الكلي خيارٌ لا يريده الخارج. الأهم هي تلك القناعة شبه المعممة بأن قراراً خطيراً من وزن ترك لبنان ينهار أو إنقاذه أكبر من أن يتولاه ماكرون، أو أن تتولاه باريس بصرف النظر عمّن يشغل موقع الرئاسة. الأمر لا يحتاج إشارات قوية من واشنطن، فاللاعبون اللبنانيون والإقليميون عيونهم تلقائياً على واشنطن، والخصوصية التي تربط لبنان بفرنسا شأن رمزي لا يُصرف في السياسة إلا ضمن الإيقاع الأمريكي. هذا كان هو الوضع، على الأقل منذ دخول قوات الأسد ووصايته على لبنان بموافقة أمريكية، والتراجع الفرنسي في لبنان لا يعدّ استثناء ضمن تراجع الدور الفرنسي في مجمل المستعمرات السابقة.

المهلة الجديدة التي وضعها ماكرون فيها قبول ضمني بانتظار نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية، لكن ما ينبغي ملاحظته أيضاً تمسك الذين أفشلوا المبادرة باستمرارها كتمسك صاحبها بها. المعطى الذي لم يتغير خلال شهر من العرقلة والتسويف هو سعي ماكرون إلى تسجيل إنجاز خارجي، وفهمُ تلهفه هذا من قبل الذين ابتزوه في الشوط الأول، مع وجود قناعة بأنه سيرضخ في النهاية لتسوية تنقذ ماء وجهه من دون أن تمس جوهر التركيبة اللبنانية المتحكمة. تسويق هذا "النجاح" سيكون سهلاً في الداخل الفرنسي الذي لا يعرف تفاصيل الشأن اللبناني، وقد يكون سهلاً حتى على الصعيد اللبناني المنهك من التجاذبات وثمنها المعيشي. 

إن نجاحاً شكلياً، أو جزءاً من نجاح، مهمة يؤديها سفير أو مبعوث خاص، ولا يتطلب وضع ثقل الرئاسة في الميزان، لولا أن ماكرون يتصرف كمرشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة أكثر من كونه رئيساً حالياً. صحيح أن عشرين شهراً تفصلنا عن موعد تلك الانتخابات، إلا أنها هاجس ماكرون الأكبر منذ الآن لأنه لم يسجل إنجازاً يُذكر خلال الجزء المنقضي من ولايته، وربما لا ينسى مجيئه إلى سدة الرئاسة بفضل الأصوات التي أراد أصحابها تجنب الأسوأ الذي تمثله مارين لوبن. 

لا ندري إلى أي حد يمكن فصل سياسات ماكرون في الداخل عن دور "المنقذ" في لبنان، وسعيه لاستعادة الحضور الفرنسي في المتوسط. داخلياً، يتجه لـ"سرقة" ناخبي اليمين الساركوزي بتبني سياسات تغنيهم عن التفكير بمرشح خاص في الانتخابات، بل تبرع وزير داخليته بتصريحات تستجلب المواجهة مع الإسلاميين، بما يشبه مغازلة لجمهور اليمين المتطرف وبما قد ينعكس موجات عداء للمهاجرين. عطفاً على مجمل سياساته، ربما يحرجنا ماكرون إذ نضطر إلى تمني النجاح له لبنانياً أكثر مما يحرج القادة اللبنانيين الذين يوبخهم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها