السبت 2020/09/19

آخر تحديث: 11:25 (بيروت)

أردوغان بين فكي بوتين مجدداً

السبت 2020/09/19
أردوغان بين فكي بوتين مجدداً
Getty©
increase حجم الخط decrease
واكبت الآلة العسكرية الروسية الجولة الجديدة من اجتماعات الوفدين الروسي والتركي، الجولة التي انعقدت في أنقرة منتصف الأسبوع الماضي. لأول مرة، ومن دون ذريعة مستجدة، نفذ الطيران الحربي الروسي حوالى عشرين غارة على مناطق في إدلب، ولم يتوقف تحليق طائرات الاستطلاع التي ترصد أهدافاً جديدة، بينما أتى الوفد الروسي إلى طاولة المفاوضات ليطالب نظيره التركي أولاً بتخفيض عدد نقاط المراقبة التركية في محيط إدلب، وبعد رفض الطلب سيضغط من أجل سحب الآليات الثقيلة التركية من المنطقة، الطلب "الذي بحسب العديد من المصادر" وافقت عليه أنقرة.

ما سبق يكاد يشرح نفسه بنفسه، فالقوات الروسية وحلفاؤها من ميليشيات الأسد وإيران لا يتعرضون لأي اعتداء مصدره إدلب. بل، على العكس، تلك الميليشيات تتأهب بمساندة روسية لمهاجمة المنطقة واجتياح قسم منها على الأقل. الإذعان التركي لمطلب الوفد الروسي بسحب الاليات الثقيلة هو تمهيد للمعركة المقبلة، فنقاط المراقبة التركية لن تساعد في صدّ الهجوم المرتقب، وقد رأيناها في الجولة السابقة وقد بقيت بشكل غرائبي ضمن مناطق أصبحت بأكملها تحت سيطرة الأسد، من دون أن يُعلَن لاحقاً عن مصيرها.

كانت قد انقضت ستة أشهر على آخر جولة من المعارك، سيطرت من خلالها قوات الأسد بإشراف روسي على مدن ومواقع شديدة الأهمية ومساحات واسعة، والأهم أن تلك الجولة تسببت في نزوح مئات ألوف الذين باتوا مشردين في العراء، وهم حتى الآن ضمن مخيمات بالغة الاكتظاظ. الهدوء الذي ساد لستة أشهر أحيا قليلاً من الأمل بأن يكون الصراع على النفوذ شارف على نهايته، وهو أمل في المقام الأول من أجل أن يلتقط المدنيون أنفاسهم، مع تراجع الآمال المتعلقة بحل نهائي يضمن كرامة السوريين جميعاً. 

لسوء حظ السوريين تفاقمت الصراعات في المنطقة، وأتت مجدداً فرصة بوتين ليكسب من وقوع أردوغان بين فكيه جراء النزاع بين الأخير وأوروبا، أو على الأقل جزء أوروبي لا يُستهان به بقيادة المتحمس ماكرون. لقد وصلت المهاترات الشخصية بين أردوغان وماكرون إلى حد غير مسبوق، ولا يخفى أن العلاقة بينهما لم تكن يوماً على ما يرام بخلاف العلاقة الدافئة بين ماكرون وبوتين. مع ذلك كان لأردوغان تأثير على مواقف الاتحاد الأوروبي يتعلق بتخويفه من تدفق اللاجئين، وبتفهم ألماني للموقف التركي، إلا أن الحملة التي يقودها ماكرون ضمن الاتحاد تلغي قدرة أردوغان على الضغط في موضوع اللاجئين خاصة مع التشدد على الحدود بسبب كورونا، وهي أكثر من ذلك تنذر بمواجهة أوروبية-تركية بسبب الخلاف التركي-اليوناني على حقوق التنقيب عن النفط في مياه المتوسط. 

معلوم أنه ليس لماكرون سياسة خاصة بسوريا، والإشارة الأهم التي أطلقها كانت عندما صرح بأن الأسد خطر على "شعبه" بينما داعش خطر على العالم، أي أن التوجه الفرنسي المتوسطي المستجد يتجاهل سوريا كلياً، ولا يتعارض فيها سوى مع النفوذ التركي المتصاعد في المنطقة. لقد رأينا أيضاً تخويف ماكرون من نفوذ تركي في لبنان، رغم عدم وجود مؤشرات عليه، بينما ثمة صمت ومن ثم مفاوضات وتعويم للنفوذ الإيراني هناك، بما ينسجم مع الموقف الفرنسي من الاستمرار في الاتفاق النووي مع طهران وعدم التوقف جدياً عند ميليشياتها التي تنشط في المنطقة. ومن الملاحظ أيضاً ذلك الصمت الروسي التام عمّا يحدث في لبنان، والذي لا يتوافق مع محاولة التمدد في المنطقة، ويجوز تأويله على أنه نوع من الرضا على سياسة ماكرون المستجدة في المنطقة. 

الموسم الانتخابي الأمريكي يساعد في تقديم الفرصة لبوتين كي يسجل انتصاراً صغيراً جديداً في سوريا، فاهتمام ترامب منصبٌ على جر المزيد من دول المنطقة لتوقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل، لعلها تستدرك تراجعه في استطلاعات الرأي باستقطاب أصوات اليهود ومؤيديهم، أو على الأقل تقرّبه من جائزة نوبل للسلام التي سبق أن نالها سلفه اللدود باراك أوباما. لا ننسى أن ترامب متهم من خصومه الديموقراطيين بمحاباة أردوغان، ولا يرغب في منحهم فرصة للنيل منه من هذه الجهة فيما لو قدّم له دعماً ملموساً، فضلاً عن أنه في موقع حساس بين بوتين وأردوغان اللذين يؤخذ عليه إعجابه بهما، ما يضطره إلى التعاطي بحذر شديد في حال نشوب نزاع بينهما. من جهتهما، لاعتبارات متباينة، قد يفضّل بوتين وأردوغان إعادة انتخاب ترامب، لكن في الشأن السوري تحديداً لا يخسر بوتين بانتخاب بايدن، بل قد يكسب سياسة أكثر ملاءمة له بفضل عودة الديموقراطيين إلى الاتفاق مع طهران، بخلاف أردوغان الموعود بسياسة ديموقراطية صارمة تجاهه، سياسة لعلها تذكّر بتخلي واشنطن عنه ودفعه إلى أحضان بوتين مع اعتذاره الشهير عن إسقاط طائرة روسية على الحدود بين بلاده وسوريا.

من المتوقع أن يكون موقع كلّ من الطرفين ماثلاً في أذهان الوفدين، التركي والروسي عندما تفاوضا في أنقرة، لذا لم يغامر الأول بإفشال المفاوضات وقبِل بمقايضة تنص على انسحاب الجانب الروسي من سرت الليبية مقابل سحب الأسلحة الثقيلة من إدلب. المفارقة هي أن التفاهم الجديد يبدو مقلوباً في طرفيه، إذ يستثني اتفاق سرت منظومة الدفاع الجوي الروسية في منطقة القرضابية، ما يعكس ميزان القوى الراجح لصالح موسكو. 

الخبر السيء على المقلب السوري أن تنفيذ التفاهم سيمر على الأغلب بسياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها موسكو والميليشيات الأسدية والإيرانية في كافة المناطق من قبل، وإذا كان الهدف من الهجوم السيطرة على محيط الطريق "إم-4" فهو لن يستثني من وحشيته مناطق أوسع، لإيقاع المزيد من الأذى وتفريغ المناطق من سكانها، ولتشتيت إمكانيات المقاومين وإجبارهم على التراجع. لقد صار هذا السيناريو مألوفاً جداً، وواحد من أوجه إجرامه أن التفاهمات لا تُنفذ مع تجنيب المدنيين الكارثة قدر الإمكان، بل من المعتاد أن يجبروا على دفع الثمن الأضخم. ربما على وقع ذلك نشهد تصعيداً شخصياً إضافياً بين أردوغان وماكرون، ليقدّما للعالم فرجة أكثر جاذبية من مشاهد الدم والخراب.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها