الأربعاء 2020/08/19

آخر تحديث: 19:32 (بيروت)

الاعتذار الواجب على المحكمة

الأربعاء 2020/08/19
الاعتذار الواجب على المحكمة
(موقع المحكمة الدولية)
increase حجم الخط decrease
ليس في العرف القضائي او النص القانوني مادة توجب ان تتقدم أي محكمة، مهما كان شكلها ومستواها وتفويضها، بالاعتذار من المتقاضين أمامها، ومن الرأي العام الذي ينتظر قرارها، عن فشلها في التوصل الى حكم باتٍ، يفصل في قضية ما، فيعطي الحق لإصحابه، ويرسي العدل لمستحقيه.

وليس في تقاليد عمل المحاكم وسلوك القضاة، ما يبرر لأي محكمة، مهما كانت الجناية التي تتعامل معها، ان تتجنب تحديد الدافع الرئيسي والمستفيد الأول، إذا ما عجزت عن التوصل الى معرفة أسماء المنفذين، عدا واحداً.. بعد جهدٍ مديدٍ دام نحو 11 عاماً سبقته تحقيقات مطولة إستمرت نحو أربع سنوات.

لكن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، مطالبة فعلا بأن تعتذر، وأن تفسر، وأن تقدم دليلاً لا يشوبه الشك، على سبب الفشل، وعلى ذلك النص المطول والمفصل للحكم الذي أصدرته بالأمس، ولم يرضِ القاتل ولا القتيل، ولم يختم المحاكمة، ولم يطوِ القضية. 

لا عذر للمحكمة أن تأسيسها كان مشوهاً، ومحاصراً، بالقيود المفروضة على عملها الذي يستبعد محاكمة دول او جماعات او أحزاب.. لان حكمها يكاد يوحي بان الجريمة نزاع فردي بين رجلين، بين عائلتين، أو بين مجموعتين من سكان مدينة واحدة.. ليس لها اي مدلول أو حافز أو أفق سياسي. قالت بشكل لا لبس فيه أن أحد أعضاء حزب الله هو المنفذ، لكنها لم تكتشف لا قائد العملية ولا طبعا العقل المدبر، والأهم من ذلك أنها لم تشر ولو عرضاً الى سبب صدور الأمر بالقتل، وهو، في الدليل الذي لا يحتمل الشك، سياسيٌ ليس إلا. 

المسعى الحثيث الذي قامت به المحكمة، حسب نص الحكم، لكي تنفي أن يكون إغتيال الرئيس رفيق الحريري، جريمة سياسية، لا ينفي عنها صفة التسييس التي يبدو أنها كانت تجاهد في إنكارها، ولو على حساب العدالة الحقيقية، ولا ينسجم حتى مع تفويضها الاساسي، الذي لا يبتغي محاكمة سياسية، لكنه ينتظر تعليلاً سياسيا يحول، حسب المعطيات والوقائع اللبنانية، دون إسناد العمل الجرمي الى صراع مذهبي يبسّط قضية الجاني والمجني عليه ، ويحيلها الى حكم التاريخ.

ربما كان الاعلان بان الجريمة سياسية يتطلب الكثير من الجرأة والمخاطرة، لكنه يظل أقل شأناً من الإخفاق طوال 11 سنة في العثور على واحد فقط من العشرات ( قيل أن عددهم يفوق الاربعين) من المخططين والمنفذين، والفشل حتى في تحديد هوية الانتحاري الذي فجّر ما يقارب ثلاثة أطنان من المتفجرات.

وعليه يجوز للرأي العام الاقتناع بان المجموعة المرتكِبة، نفذت ما يشبه الجريمة الكاملة، بمهنية ودقة وخبرة، لا تقارن بمستوى حرفية ومهارة وكفاءة المحكمة الخاصة التي جمعت قضاة ومحققين من أكثر من ستين دولة، وأنفقت ما يقارب المليار دولار نصفها من الدولة اللبنانية، لكي لا تجد دليلاً لا يشوبه الشك إلا على شخص واحد.. يوحي الحكم بانه ربما يكون قد نفذ الجريمة من دون أي خلفية سياسية، وليس فقط من دون هوية حزبية معروفة.

كان يكفي ان تلاحظ المحكمة، وبالقليل من الفطنة، ان الحريري، الذي ذكرت في نص حكمها أنه لم يؤيد علناً قرار مجلس الامن الدولي الرقم 1559، هو مصدر ذلك القرار ومحوره الرئيسي. وهي في ذلك لن تجافي الحقيقة ولن تتعارض مع المسلمة المطلقة والمثبتة ، في ان ذلك القرار هو سبب صدور أمر الاغتيال اللبناني السوري الايراني المشترك، الذي لم يكن نتيجة خلاف مع الحريري على التمديد لإميل لحود ولا على توزير الاحباش او سواهم من الودائع السورية، بل كان على التوجه الدولي والعربي أيضا لإخراج الجيش السوري من لبنان، الذي ترجمه الشهيد الحريري، بعبارة ما زالت تطن في الآذان حتى اليوم: "الوجود العسكري السوري ضروري ومؤقت في لبنان"..وظل يرددها على مسامع الجميع، برغم التحذيرات المحلية والدولية التي كان يتلقاها حتى ظهر يوم الرابع عشر من شباط 2005.

لا بد من إعتذار ما عن ذلك التسخيف للجريمة، وعن ذلك التبسيط للمحكمة، وعن ذلك الهزال في الحكم..الذي لا يذكر حتى الانسحاب العسكري السوري من لبنان، وهو كان أيضاً من المنجزات المتأخرة لرفيق الحريري، الذي رحم اللبنانيين من إنتشار عسكري كان يمكن أن يتسبب بكارثة لبنانية كبرى، لو ظل قائماً على الاراضي اللبنانية، لست سنوات أخرى فقط، أي حتى موعد إنطلاق الثورة السورية!  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها