الثلاثاء 2020/08/11

آخر تحديث: 07:11 (بيروت)

ثورة على التفاهة

الثلاثاء 2020/08/11
increase حجم الخط decrease

تتفق نسبة ساحقة من اللبنانيين طالبي التغيير على تفاهة ما يريدون تغييره؛ لا شخصيات ذات وزن وكفاءة يُراد إسقاطها، ولا برامج لدى المتمسكين بالكراسي تُعارَض ببرامج مضادة. ليس من معنى إطلاقاً ليُدحض بمعنى مقابل، هو خواء السلطة وضآلتها معاً، بحيث تختزل نفسها إلى حد البقاء، واستيلاد تفاهتها ذاتها أو أزيَد. مهما حصل، سلطة من هذا القبيل لا تبادر إلى التنحي، بل تقاوم دفعها إلى نهايتها الوحيدة المنطقية؛ غني عن القول أن مفهوماً مثل الكرامة لا يجتمع مع التفاهة. 

انفجار بحجم انفجار بيروت لا يهز سياق التفاهة، إذ يمكن إحالته إلى تاريخ من الإهمال، أي إلى تاريخ من التفاهة أيضاً، وبحيث يكون مسؤولو اليوم أبناء سلالة كانت طوال الوقت على هذا النحو، بل كانت تُنتخب مع إدراك لطبيعتها. الإحالة السريعة إلى فرضية الإهمال المتراكم، وهي قد تصحّ، تردّ الانفجار إلى حادث عرضي من طبيعة السلطة. هو بالأحرى حادث تافه، ناجم عن تراكم من الإهمال الوظيفي المعتاد ليس إلا، وهو لذلك لا يرقى ليكون جرماً. هكذا يوضع الانفجار إلى جانب الانهيار المالي الذي سبقه، فهما نتاج سيرورة مشتركة، ولكثرة المساهمين فيها ينبغي استبعاد النوايا الجرمية، وتالياً إدانة الجميع أو تبرئتهم جميعاً.

السلطة هنا، وفق توصيف دارج لها ووفق توصيفها الضمني لنفسها، هي أدولف أيخمان كما رأته حنة أرندت في متابعتها لمحاكمته في القدس، ومنه اشتقت تعبير "تفاهة الشر". أيخمان، وفق تصوير أرندت، لم تكن تحركه دوافع خبيثة خاصة ولم يكن واعياً لخطورة أفعاله بالمعنى الجذري لكلمة الشر، هو شرير كوظيفة ضمن جهاز، أي بالمعنى المبتذل التافه للشر. وهو، بتعبير يستقي من اللاهوت، ابن الخطأ لا ابن الخطيئة.

سنبلغ قمة الاستهتار والتسطيح مع قول أمين عام حزب الله "ما في شي لإلنا في المرفأ"، والقول أنه يعرف عما في مرفأ حيفا أكثر مما يعلم عن مرفأ بيروت. زعيم الجهة الوحيدة التي تملك معنى في هذه السلطة وورائها يتبرأ من المرفأ، ومن أهميته ضمناً. هو، إذ لا يعرف شيئاً عن محتوياته، يزدري أهميته الاستراتيجية ويحيله إلى مجرد ميناء عادي بأيدي موظفين صغار عاديين. لو اعترف باستخدام هذا المرفأ لاستقدام الأسلحة، أو معداتها ومنها نيترات الأمونيوم، لصار للمكان قيمة تنتشله من التفاهة التي تُراد له. تالياً، لو وضعت فرضية مهاجمته إسرائيلياً، لأدت الفرضية الغرض ذاته. قد تصح التحليلات التي تشير إلى مصلحة الحزب في استبعاد فرضية الهجوم الإسرائيلي، لأنه ليس في جهوزية للرد المطلوب منه. لكن، إلى جوراها، يصح أيضاً الانتباه إلى حرص الحزب على تتفيه ما يُسمى اصطلاحاً بالدولة اللبنانية وكل ما يتصل بها. ليس أدل على ذلك من اختياره التركيبة الحالية، ومن ترفعه المعلن عن الإمساك المباشر بالتفاهة التي يوظفها. 

مع ذلك كله، لهذه السلطة فوق تفاهتها القدرة على الدفاع عن نفسها بجذرية تخالف طبيعتها المفترضة. إنها قادرة على ممارسة العنف، بل قادرة على مفاجئة خصومها بالوصول إلى عتبة من الوقاحة أدنى مما يتوقعون، أي أن تُفقدهم بسهولة ما كانوا يتوهمون من قدرة على إحراجها. ها هو الدرس يتكرر مرة أخرى، التفاهة أصلب بأساً من سذاجة الخصوم الآتية من مستوى قيمي مغاير. 

السلطة اللبنانية ليست استثناء في المنطقة، إلا بقدر ضئيل من تذكارات "الصيغة اللبنانية" التي راحت تتبدد منذ الحرب الأهلية 1975، إذا لم نقل منذ دخول المنظمات الفصائل الفلسطينية كلاعب خارجي مؤثر فيها. هي تندرج ضمن محيط من التفاهة، يتعين بسلطات لا هم لها سوى استيلاد بقائها، ويتعدى المصادفة أن يأتي الاستيلاد ممسوخاً عما سبقه. 

في كل البلدان العربية التي شهدت ثورات في السنوات الأخيرة، كنا إزاء سلطة بلغت من التفاهة أنها تعمل كماكينة قهر خالية من أي معنى آخر. بن علي لم يكن صاحب مشروع كما كان سلفه بورقيبة، ومبارك ليس عبدالناصر صاحب المشروع القومي والمقاومة ولا هو السادات صاحب مشروع السلام والانفتاح، هو مجرد صاحب سلطة يسعى إلى توريثها. إلى الدرك نفسه كان قد انحط حافظ الأسد والقذافي وعلي عبدالله الصالح وصدام حسين، مع امتلاكهم جميعاً فائض القوة إزاء المجتمعات، وأيضاً فائض الثروة الذي يؤشر إلى البؤس الذي أوصلوها إليه، ولن يكون حال من ورثوا السلطة في العراق أفضل، إذ ستنفتح مع الثورة عليهم ملفات مدهشة بقدر ما فيها من دلائل على الانحطاط والتفاهة. 

قبل شهرين رأينا الشباب السوري يرفع الإصبع الوسطى في مواجهة صورة بشار الأسد، وقبلها بأشهر هتف الشباب اللبناني "هيلا هيلا هو"، ولعل هذه المظاهر من أبلغ الدلالات على التفاهة المقابلة. إذ ما القيمة الفكرية أو الأخلاقية التي سيشتبك فيها متظاهر مع خصم متحلل تماماً من القيم؟ هذا تساؤل من قبيل التأكيد على تفاهة السلطة، لا لبخس خصومها حقهم من المعرفة والقيم، ولا يذهب إلى ما يودّ كثر استخلاصه لجهة أن السلطة تخلق معارضة على نموذجها، فالحق أن فشل الثورات هو في أن من يمتلك القيم لا يمتلك القوة المُحتكرة لصالح التفاهة وحدها.

واقعياً، يصعب أن تقوم سلطة وتستمر بلا أي مشروع. إن مثال أيخمان لدى أرندت هو فردي، لا ينطبق على النازية وكأنها مجموعة من الأيخمانات، فالنازية ليست شراً تافهاً، هي شر جوهري يوظف الأيخمانات لديه. على هذا القياس، يلزم للسلطات موضوع قراءتنا أن تتوسل ما هو جوهري لتغطي به تفاهتها، وهكذا يكون تعاقد سلطات من بغداد إلى دمشق فبيروت مع المشروع الإيراني غطاء قيمياً تحتاجه بقدر ما تحتاج آلته العسكرية. واقعياً، على سبيل المثال، يصعب أن يخرج طامح لبناني في الرئاسة ليعلنها صراحة، ولأنه لا يملك مشروعاً وتمكيناً خاصاً به سيجد في مشروع الحزب وإمكانياته سبيله إلى طموحه. ولا يستطيع بشار الأسد، بدل التسويق لنفسه كعضو في محور إقليمي ودولي، الاعتراف بأنه وسلطته مجرد أيخمان يحظى بالإفلات من العقاب.

بعد عقد ونصف من إسقاط النازية حوكم أيخمان، وكانت تلك مدة كافية لتراه أرندت بعقل بارد وترى فيه رمزاً لتفاهة الشر، ربما فقط وهو خلف القضبان. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها