الأحد 2020/08/02

آخر تحديث: 09:15 (بيروت)

سياسة سورية منتجة للبقاء

الأحد 2020/08/02
increase حجم الخط decrease

شكلت السياسة الخارجية السورية، على مدى عقود، أحد أهم مصادر شرعية النظام السياسي السوري وقوته منذ استيلاء حزب البعث على السلطة في 8 آذار/ مارس 1963؛ لذلك تُعدّ عملية مقاربة هذه السياسة، بمرتكزاتها وآلياتها وممارساتها وأهدافها، وقراءة تاريخها الطويل في التعامل مع الأزمات الخارجية المختلفة، وخلفيات قدرتها على استثمار الوقائع والعلاقات في سبيل بقاء النظام وتحصينه، مسألة مهمة جدًا.

كثيرًا ما أعلنت نخب سياسية وثقافية في سورية نهاية النظام أو اقتراب سقوطه، وقد حدث ذلك في محطات عدة، لكنه تجاوزها دائمًا؛ فبعد وفاة الأسد الأب مثلًا، ساد انطباع بعدم قدرة الأسد الابن على ملء الفراغ وتثبيت سلطته، وتوقع كثيرون من السياسيين والمراقبين انهيار النظام في إثر اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، والانسحاب السوري من لبنان، والحصار الأميركي والأوروبي والعربي لسورية بدءًا من عام 2005. 

وبعد الثورة، كثيرًا ما سمعنا، في مناسبات عديدة، تصريحات إقليمية ودولية، فضلًا عن تصريحات المعارضة السورية، باقتراب سقوط النظام، لكن النظام كان يتخطى الأزمات تلك، وما زال مستمرًا إلى الآن، ولعل السرّ يعود، في اعتقادي، بصورة أساسية، إلى سياسته الخارجية، على الرغم من معرفتنا بالبيئة الداخلية المحكمة التي بناها خلال نصف قرن، والتي لا يُتوقّع منها كثيرًا إنتاج ثورة ديمقراطية قادرة على مواجهته. 

لعل أهم ثروة يملكها النظام السوري هي سياسته الخارجية؛ فهي كانت أداته لتحصين نفسه ضد التهديدات، ووسيلته لتعظيم دوره الإقليمي وإزعاج خصومه، وأحد مصادره الأساسية لتحصيل المال والمساعدات من محبيه وكارهيه على السواء، وقد استند في بناء وترسيخ سياسته الخارجية إلى عددٍ من الآليات والاستراتيجيات المتضافرة، منها البراغماتية والدور الوظيفي، التخريب واللعب في ساحات الآخرين، سياسة الانتظار وكسب الوقت.

البراغماتية والدور الوظيفي؛ ليس من الصعب اكتشاف أن تنقلات هذه السياسة بين "الممانعة" المتطرفة، والبراغماتية البحت، غير المستندة إلى مبادئ راسخة تتعلق بالمصالح الوطنية، لا تهدف إلا إلى تثبيت نظام الحكم في الحصيلة؛ فالأهداف المعلنة لم تكن إلا غطاءً لسياسة خارجية محركها الفعلي هو خدمة النظام وتحصينه وتأمين دفاعاته ومصالحه.

ترتكز سياسته الخارجية، أساسًا، على استراتيجية الموازنة بين المصالح المتناقضة للدول، ليتحول النظام بفضلها إلى نظام وظيفي، يعبِّر عن نفسه بالخدمات التي يقدمها في الإقليم والعالم، وهذا جعله متداخلًا بصورة معقدة في بنية النظام الإقليمي والدولي، وجعل مسألة الاستغناء عنه، من دون تفكيك هذه البنية وإعادة صوغها على أسس جديدة، أمرًا صعبًا جدًا؛ بنى النظام علاقات مع دول ومحاور متناقضة، للعب على خلافاتها وصراعاتها من جهة، ولتقديم الخدمات لها من جهة أخرى، علاقات مع أميركا وروسيا في وقت واحد، علاقات مع إيران ودول الخليج العربي وتركيا في آن معًا... إلخ. بنى الأسد الأب تحالفًا مع إيران، على الرغم من الاختلاف العقائدي مع نظامها، وبنى عداوة مع العراق على الرغم من التماثل العقائدي مع نظامها. وقد انعكس تحالفه مع إيران إيجابًا على ثبات النظام ورسوخه، وأرغم الآخرين على إعادة حساباتهم تجاهه، ومقايضته في مسائل عديدة.

يُضاف إلى ذلك تداخله في صراعات المنطقة كلها، قديمًا وحديثًا: النزاع العراقي الإيراني، النزاع التركي الكردي، النزاع الخليجي الإيراني، الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا الأخير وحده أتاح له تفاهمات، فوق الطاولة وتحتها، تُسهم عمليًا في بقائه.

اللعب في ساحات الآخرين؛ النظام السوري نظام أخطبوطي له أيدٍ ومنظمات وجماعات في دول الإقليم كلها؛ حزب الله وحركة أمل في لبنان، بعض القوى والجماعات اللبنانية القومية واليسارية، حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، حزب العمال الكردستاني في تركيا، منظمات وميليشيات متنوعة في العراق، عدد من الأحزاب اليسارية (القومية والشيوعية) في بلدان عربية مختلفة... إلخ، وهذا أعطاه القدرة على ممارسة الضغط على جيرانه، وسمح له باللعب في ساحات الآخرين وابتزازهم وتهديدهم، وأبرز مثال على ذلك علاقة سورية بحزب العمال الكردستاني (PKK) التي أوشكت أن تجرّ تركيا وسورية إلى حرب في العام 1998.

في لبنان مثلًا، كانت السياسة الخارجية للنظام سياسة مافيوية ترتكز على أدوات استخبارية بحت في الفعل والتأثير، في وقتٍ قدم فيه لبنان للنظام السوري، على الدوام، مجالًا واسعًا لحلّ معضلاته الاقتصادية، وكانت أرضه ساحة حرب، في لحظة من اللحظات، بين إسرائيل وسورية. وبذلت السياسة الخارجية السورية أيضًا جهدًا كبيرًا لاحتواء العمل الفلسطيني، ودخلت في مواجهات مسلحة مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وسعت لتفكيك الصف الفلسطيني في محطات عديدة، وانحازت صراحة إلى القوى الفلسطينية المعارضة لياسر عرفات، ورعت التنسيق بينها، وحولتها إلى أوراقٍ تضغط بها على خصومها السياسيين، ما أعطاها هامش مناورة في العلاقات الإقليمية والدولية.

في عهد الأسد الأب، استضاف النظام بعض معارضي صدام حسين، ليعود الأسد الابن ويشجع المقاتلين ضد حكومة ما بعد صدام في العراق التي شكلها معارضو صدام الذين كانوا في دمشق وطهران، حتى أنه سمح للمتطرفين الإسلاميين بالعمل في الأراضي السورية، والمرور منها إلى العراق. 

نجح النظام السوري في تثبيت دوره في المحيطين الإقليمي والدولي، وفي تخفيف الضغوط الخارجية عليه باستخدامه أوراق الضغط التي يملكها في الملفات الإقليمية كافة، في لبنان والعراق وفلسطين، واللعب في ساحات الآخرين، وكفّ أيديهم عن التأثير في الأوضاع الداخلية في سورية، وساعده في ذلك وضع سورية التاريخي والجغرافي بوصفها بلدًا أساسيًا في المنطقة، ومرتبطًا بجميع أزماتها وملفاتها، بوجود نظام الأسد أو غيره، كما ساعده أيضًا فشل الحسابات الغربية في المنطقة، خاصة الأميركية.

سياسة الانتظار وكسب الوقت؛ اعتاد النظام السوري، في محطاتٍ عديدة، مع اشتداد الضغوط الخارجية عليه، اللجوء إلى سياسة الانتظار وكسب الوقت إلى أن تتغير الأحوال، أحوال الضاغطين عليه، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، بحكم أن الانتخابات الدورية في هذه البلدان ستأتي كل مدة بأشخاص آخرين وطواقم عمل مختلفة، ما يعني أن الحكومات الجديدة ستحدِّد، بالضرورة، أولويات مختلفة، ومن ثمّ تحتاج إلى بعض الوقت لترتيب نفسها وجدول أعمالها، كما يمكن أن تتغير سياساتها تجاهه، على الرغم من عدم تغييره سياساته، وقد نجا النظام السوري بفعل سياسة الانتظار هذه من أزمات عديدة. فبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005 مثلًا، كان النظام محاصرًا وتحت ضغط شديد، لكن الحال تغيَّرت بعد مدة من دون أن يُضطرّ إلى تغيير مواقفه. 

لم يكن لدى النظام السوري بدءًا من عام 2011 إلا استراتيجية واحدة؛ هزيمة الثورة والمعارضة. فقد عطل الطرق والأدوات الأخرى الممكنة جميعها، وهذه نقطة ضعف أساسية في سياسته العامة، بحكم نتائجها غير المضمونة دائمًا. وفي سياق ذلك، اعتمد سياسة الانتظار التي حافظت على وجوده إلى الآن، لكن ليس على الوجود الذي يشتهيه؛ إذ يُظهر الوضع الحالي أن التجربة السابقة ليست كفيلة بتأكيد أن الأمور ستسير دائمًا بالطريقة نفسها، فقد أخفق في استخدام هذه المدة لوضع استراتيجية تمكنه من الخروج من هذا الوضع بأقل خسائر ممكنة، ما يعني أن استراتيجية الانتظار انعكست عليه أيضًا بصورة سلبية، إلى درجة أنه بات غير قادر على أداء وظائفه في الداخل، وتحول في المستوى الخارجي إلى جسمٍ منفعل، وغير قادر على العمل بالطريقة السابقة ذاتها، على الرغم من أنه ما زال يحتفظ بفائضٍ من القدرة على التخريب في الداخل والخارج.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها