الأربعاء 2020/05/27

آخر تحديث: 06:06 (بيروت)

فتيات "تيك توك" وسلطة لا تتجزأ

الأربعاء 2020/05/27
فتيات "تيك توك" وسلطة لا تتجزأ
مودة الأدهم
increase حجم الخط decrease

تتوالى أخبار القبض على ناشطات وصحافيات مصريات لأسباب سياسية، هذه الأيام. وتتداخل معها أخبار القبض على شابات مصريات في مطلع العشرينات أو أصغر، بسبب الظهور "غير اللائق" عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص تطبيق "تيك توك"، وتوجِّه النيابات العامة لهن تُهم الحض على الفجور وهدم قيم الأسرة المصرية.

حماية النساء والأقليات والحريات الشخصية، كانت من ضمن الدعائم التي أسس عليها نظام 30 يونيو في مصر شرعيته. ولم تكن "الدولة العميقة" في حاجة إلى بذل جهد كبير لتأليب الرأي العام ضد حكومة محمد مرسي المنتخبة في هذا الخصوص، فقد تولت "جماعة الإخوان"، المهمة، مع المتعاطفين معهم من المسيسين من التيارات الإسلامية الأخرى أو غير المسيسين، أو على الأقل كان تاريخ نماذج الحكم "الإسلامي" المعاصرة كفيلاً بإثارة الرعب، تضخيم المخاوف، والمبالغة في تفسير العلامات التي تصدرها السلطة حينها. ولا عجب أن شرائح الطبقة الوسطى العلمانية، والمثقفين والنساء والأقباط، كانوا في مقدمة من دعموا حركة "تمرد" والحراك الذي انتهى بثلاثين يونيو.

لكن المتناقض وغير المثير للدهشة في الوقت ذاته، هو إن المؤسسة العسكرية منذ تصدرها للمشهد خلال الأيام الأولى لثورة يناير، استهدفت تلك الفئات الأكثر هشاشة أولاً، وبقسوة دموية غير معهودة. فبعد أسابيع من عزل حسني مبارك، وفي مارس/آذار 2011، اعتقلت قوات الجيش 17 متظاهرة من ميدان التحرير، ونقلتهن إلى سجن حربي، حيث تعرضن للضرب والصعق الكهربائي والتعرية أمام المجندين، ومن ثم إخضاعهن لكشف عذرية إجباري. كانت تلك الخطوة الصادمة والمريعة وغير المسبوقة، مقدمة لسلسلة من الانتهاكات المتواصلة والممارسات القمعية، وربما لم يكن من باب الصدفة أن الفئة المستهدفة كانت من النساء، الشابات وغير المتزوجات تحديداً. وكان اللواء عبدالفتاح السيسي، رئيس الاستخبارات العسكرية حينها، أول مسؤول رسمي يعترف بالواقعة، ويبررها بحجج لا تقل في فظاعتها عن الانتهاك نفسه.

وبعد حوالى ستة أشهر من الواقعة، وفي أكتوبر من العام نفسه، ارتكبت قوات الجيش مذبحة ماسبيرو ضد متظاهرين أقباط، فيما كان جهاز التلفزيون الرسمي يحرض الأهالي على النزول في الشوارع ومهاجمة الأقباط الذين كانت تسحقهم الدبابات تحت عجلاتها. وربما كان التدرج في اختيار الضحايا وطبيعة الانتهاكات في كل مرحلة، غير مخطط له أو غير متعمد بشكل واعٍ، لكن لا يصعب تصور نمط ما تصاعدي، قاد في النهاية إلى تبخيس كلفه القمع وتعميمه لاحقاً.

لكن استهداف الفئات الأضعف، وبالأخص النساء، لم يكن مجرد فعل مرحلي. فالمؤسسة العسكرية التي تلعب الدور الرئيسي في الحكم اليوم، وبشكل أكثر مباشرة من السابق، هي مؤسسة بطريركية بالتعريف. وسيكون من الفائض عن الحاجة النظر في التجنيد الإجباري القاصر على الذكور، وشعارات "مصنع الرجال" التي تزين أسوار المواقع العسكرية وغيرها من التفاصيل، للتدليل على ذكورية المنطق "العسكري" المهيمن على منظومة السلطة اليوم، بما فيها القطاعات المدنية أيضاً.

ما ارتكبته "فتاة التيك توك"، حنين حسام، وبعدها مودة الأدهم التي طاردتها قوات الأمن أسبوعاً كاملاً من بيت إلي بيت ومن حي إلى حي عبر تتبع أجهزتها الإلكترونية، لم يكن خدش قيم "الحياء العام". فالأولى لا تظهر سوى محجبة، والثانية لم تتجاوز مقاطعها المصورة الرقص على خلفية من الأغاني، بطريقة لا يمكن وصفها سوى بالطفولية. لكن ما أزعج السلطة هو تلك الساحات الافتراضية التي تظهر فجأة، واحدة وراء الأخرى، والتي تحظي فيها حنين ومودة بمئات الآلاف من المتابعين، وخروج ذلك كله عن السيطرة، سيطرة الدولة والمجتمع. يدرك النظام أن "الانفلات الأخلاقي" نوع من الانفلات السياسي أيضاً، وأن زعزعة القيم الذكورية والأبوية للمجتمع، هي تحدٍّ لمنطق السلطة نفسه، خصوصاً العسكري. فبالحماسة نفسها التي تحارب بها الدولة، "فايسبوك" و"تويتر" والمنشورات ذات الطبيعة السياسية فيهما، فهي تحارب "تيك توك" ومقاطع الرقص، بوعي غريزي بأن السلطة شاملة، ولا تتجزأ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها