الثلاثاء 2020/05/12

آخر تحديث: 11:03 (بيروت)

العِلم والوباء والسياسي

الثلاثاء 2020/05/12
العِلم والوباء والسياسي
مجسم "العمال" مغطى "بمعدات الحماية الشخصية" في مدينة هاسلينغدن البريطانية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
هل ينتصر العِلم أبداً؟ يتردد صدى عبارة قديمة لنيتشه، واحدة من شذراته التي قد تعني أشياء كثيرة أو لا تعني شيئاً على الإطلاق: "ليس انتصار العِلم هو ما يميز قرننا التاسع عشر، بل انتصار المنهج العلمي على العِلم". تحدى نيتشه معاصريه وصيحات الانتصار النهائي للعلم على الدين، وللعقلاني على الغيبي والخرافي، ويتحدى ما يراه صنماً جديداً، أي المنهج العلمي.

في بدايات موجة الوباء الحالية، تجلت مرونة المؤسسات الدينية حول العالم، وبراغماتية قرارتها بإغلاق دور العبادة وتجميد الطقوس الجماعية وتعليق ممارسات الحج وغيرها. عقلانية تحمل في طياتها دلالة على ثانوية دور المؤسسة الروحية في اتخاذ القرار، على رسوخ تبعيتها في عالمنا اليوم للمنظومة السياسية والتقنية للدولة. تبعية تبدو كوكبية وعابرة للحدود وللأديان، ولشكل أنظمة الحكم وأيديولوجيتها. المخاوف من خرق قواعد التباعد الاجتماعي على نطاق واسع، بدوافع روحية أو دينية، ثبتت هشاشتها، ظهرت ومضات منعزلة ومتباعدة من المقاومة لقرارات إغلاق دور العبادة، وجميعها بدا كاستغاثة يائسة لا أكثر، وسرعان ما انطفأت بلا جهد كبير، وفي أحيان كثيرة من تلقائها.

الرسوم البيانية في نشرات الأخبار وفي المؤتمرات الصحافية للسياسيين، كانت شاهدة على الموقع المتقدم للعِلم في مواجهة الوضع الاستثنائي، وعلى شعبيته أيضاً. الحكومات تؤكد، مرة بعد مرة، أن قرارتها مؤسَّسة على نتائج علمية. أما المواطنون، فيتناقشون بأريحية في أنظمة التنبؤ الإحصائية، بمعرفة قليلة، لكن كافية للفهم والحديث عن قمة المنحني، صعوده وهبوطه، ومعنى هذا كله. العالم يكتم أنفاسه في انتظار الخلاص، على يد العلم بلا شك. فبعد كل الإجراءات والخسائر، المصل هو المخرج الوحيد، والعيون شاخصة إلى مراكز الأبحاث، والجميع يتابع أخبار التجارب على البشر، في اليابان وبريطانيا وأماكن أخرى.

لكن، هل انتصر العلم فعلاً؟ وعلى ماذا؟ في الولايات المتحدة، المعمل البحثي الأضخم والأكثر تمويلاً، تصادم البيت الأبيض مع مستشاريه العلميين، مرة بعد مرة، أمام الصحافيين، وعلى الهواء مباشرة. يقفز ترامب فوق الإجراءات ذات الطبيعة المؤسسية ومعاملات الأمان ومتطلبات الأخلاقيات البحثية (جميعها جزء من قواعد المنهج العلمي)، لصالح حلول أسرع، أكثر مخاطرة، وربما في نظره أكثر شجاعة (بشكل ربما كان سيسرّ نيتشه)، مُقترحاً على الجمهور عقاقير للعلاج لم تثبت فاعليتها بعد ولم تُختبر أعراضها الجانبية. يبدو ترامب وكأنه يسعى لتجربة فورية وبلا ضوابط، على عموم السكان. لكن المخاطرات لم تكن هناك فقط. في بريطانيا، وفي مرحلة مبكرة، استعانت الحكومة بفرضية "مناعة القطيع". نظرية لم توضع محل اختبار لإثبات صحتها من عدمه. وكما بدا في البداية، كانت السياسية التي تبنتها الحكومة هناك، هي المغامرة بحيوات المواطنين، بمنطق أقرب إلى "البقاء للأصلح".

لكن مسألة العِلم كانت أيضاً محل اختبار في أكثر من جهة، في الصين على سبيل المثال، فُرضت قيود على البحوث المتعلقة بمنشأ الفيروس وطرق انتقاله من الحيوانات إلى البشر، لأسباب سياسية بالطبع. التخبط في إداء منظمة الصحة العالمية، وضعفه، كان إثباتاً آخر على المدى الذي يتداخل فيه العِلم مع الدبلوماسية وموازين القوى والسياسة، بل وحتى مع البيروقراطية المؤسسية الصرفة. في الولايات المتحدة، كما في بريطانيا وألمانيا، تنقسم آراء المراكز البحثية على الخطوط العريضة لنشأة الفيروس وطرق انتقاله والوقاية منه، بالقدر نفسه الذي يشوب اختلافها حول التفاصيل الأدق. حتى أن تفصيلاً صغيراً بخصوص فاعلية الكمّامات في الوقاية، ظل معلقاً وبلا حسم، لوقت طويل، بل وإحصاءات الوفيات والإصابات في دول الشمال اعتمدت منهجيات غير موحدة ومتضاربة أحياناً، ما شكك في إمكانية اتخاذها معياراً موثوقاً للقياس والمقارنة.

المدرستان العلميتان الرئيسيتان تم تقسيمهما إلى حمائم وصقور. الأولى تميل إلى الحرص على الرفع التدريج والبطيء للإغلاق العام، وأحياناً تمديده حتى الوصول إلى مصل. والثانية، أكثر ميلاً إلى عودة سريعة للحياة الطبيعية، مع عزل للفئات الأكثر عرضة للخطر. وبين هذا وذاك، فإن خطوات رفع الحظر، وتفاصيلها، و"جوازات المناعة" التي يمكن منحها للمتعافين، وغيرها، مؤسسة على الكثير من الحقائق المثبتة، وأيضاً الكثير من التكهنات والتخمينات والافتراضات غير المثبتة بعد، إضافة إلى قدر بلا بأس به من التفاؤل والتشاؤم، والأهم حسابات سياسية، متعلقة بالاقتصاد والإنتاج وسوق العمل والحريات العامة.

يوضَع العِلم بالفعل في المقدمة اليوم، وتتخذ الحكومات القرارات باسمه. أما المنهج العلمي، البطيء بطبيعته، المتشكك والمتأني والمتردد والتراكمي، لأسباب كلها جيدة وضرورية، يظل هشاً في مواجهة السياسي، ويبقى واحداً من بين أدواته التي يقوم بتطويع ثغراتها لصالحه. الوصول إلى مصل بالطبع مسألة وقت، وانتصار العِلم على الوباء أكيد (إن صح لنا استخدام كلمة انتصار)، إنما ما سيظل بلا حسم هو علاقة العِلمي بالسياسي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها