الأحد 2020/04/05

آخر تحديث: 14:09 (بيروت)

كورونا..نبؤة خادعة

الأحد 2020/04/05
كورونا..نبؤة خادعة
increase حجم الخط decrease
منذ 19 عاماً، أطلق الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش الابن، عبارة عفوية، تنزل بالبداهة الى حد السذاجة، لكنها لا تزال تتردد حتى اليوم في كل مقام ومقال تخون صاحبه اللغة أو تعييه الحيلة، أو تغرقه الحيرة. قال  ما حرفيته : "العالم بعد هجمات 11 أيلول سبتمبر2001 لن يكون كما قبله".

يومها كان بوش الابن، الذي يعتبر واحداً من أغبى الرؤساء الاميركيين ، قد فوجىء بسؤال صحافي حارَ في العثور على اجابة له، فإستخدم تلك العبارة التي سرعان ما ذهبت مثلاً، ودخلت قواميس اللغة السياسية.

الآن يشهد العالم إستعادة جارفة لتلك العبارة، لمناسبة الغزو الرهيب الذي يتعرض الجنس البشري من قبل فيروس كورونا المدمر للحياة الانسانية، بشكل يفوق بأشواط ما فعلته هجمات 11 ايلول وما  سبقها وأعقبها من حروب عالمية وأزمات دولية.

"العالم بعد غزو فيروس كورونا لن يكون كما قبله"، الجملة  ترد اليوم على كل شفة ولسان، وتختم حديث كل من يعجز عن التحليل والتقدير لما يمكن ان يحصل في العالم عندما يتوقف التفشي وتزول الجائحة وينتهي الشلل شبه التام لحركة ما يقرب من ثمانية مليارات إنسان على وجه الارض.

بالطبع لن يكون العالم بعد الغزو الجرثومي الكاسح  كما كان قبله. لكن كيف؟  ولماذا ؟ وما بعد؟

الاستشهاد بجورج بوش الابن تحديداً ضارٌ ومؤذٍ، لكنه ليس بمخاطر الرحلة الاستكشافية التي يدعو اليها مروجو فكرة "العالم المختلف الذي سيأتي بعد كورونا"  والتي تبدو سابقة لإوانها، لسؤ الحظ، ولم تسفر حتى الان سوى عن تشوش وإرتباك يزيد من خطر الوباء.. لا سيما عندما يتم التداول بتوقعات (يمكن تأجيلها قليلا) مثل أن العالم سيكون أشد فقراً واكثر إضطراباً وأقل حرية وأدنى ديموقراطية!

"العولمة" كانت ولا تزال أول ضحايا تلك الرحلة المتسرعة. فالظاهرة التي أنهاها أسامة بن لادن ودفنها فلاديمير بوتين منذ زمن بعيد، عادت لتتخذ أشكالا جديدة أقوى وأهم من أي وقت مضى. صحيح ان الحدود مقفلة بين الدول ووسائل النقل الجوية والبحرية معطلة، لكن الاجهزة الطبية والصحية والمختبرات الطبية في مختلف أنحاء العالم تعمل بإيقاع واحد، وتخوض معركة مشتركة ضد عدو واحد. كما ان الجيوش وأجهزة الاستخبارات تتصرف وكأنها في حالة حرب فعلية من نوع جديد. الطائرات العسكرية تحلق الآن في مختلف الاجواء حاملة المعدات والتجهيزات الطبية، ورجال الاستخبارات يقتحمون  المختبرات والمصانع محملين بالاموال لشراء الادوية واجهزة الفحص والتنفس النادرة. وما قيل عن رحلات سرية قام بها عملاء الموساد الاسرائيلي لهذا الغرض الى عدد من دول الخليج العربي، لم يكن مجافياً للحقيقة.

"العولمة" الصحية والعسكرية أسقطت الكثير من الحدود، التي لم يبق منها سوى ما يحد روسيا وإيران وكوريا الشمالية. حافزها الوحيد هو رقم الاصابات الذي حطم بسهولة  حاجز المليون ورقم الوفيات الذي يقترب بسرعة مذهلة  من رقم الستين ألفا. وربما تؤدي تلك الارقام وحدها ومعها الجائحة نفسها الى وقف عدد من الحروب والنزاعات العالمية، لاسيما مع تضاؤل قدرة مختلف دول العالم وجيوشها على خوضها، من يدري؟

أما "العولمة" الرقمية، التي لا تزال تمثل واحدة من أهم إنجازات البشرية على الاطلاق، فإنها لا تبدو مهددة بأي شكل من الاشكال، بل هي مرشحة للمزيد من التطور والتوسع والتعمق. التكنولوجيا الحديثة، هي الان حصن شعوب العالم قاطبة، وسبيلها الى حماية نفسها وإستعادة منعتها. وأعداد الناس الذين يتواصلون ويتعاونون ويعملون ويؤسسون اليوم لمستقبل يدار به معظم القطاعات الاقتصادية عن بعد، وهو ما يبدو كأنه إرتقاء طبيعي في سلوك الدول والشعوب، أكثر مما هو إلتزام إجباري بالقيود المفروضة على الحركة والتنقل.

العالم ما بعد كورونا، ربما سيكون معولماً أكثر على هذه الصعد تحديداً، مع تركيز شديد على سد الفجوة الهائلة التي كشفها الوباء الجامح في القطاع الطبي وعلومه وتجاربه وإستثماراته، بالمقارنة مع بقية القطاعات المعولمة، مثل التكنولوجيا والعسكر..وما نبت على هوامشهما من مظاهر فقر وجوع وتردٍ إقتصادي، لم تكن اي دولة في العالم بمنأى عنه في الفترة التي سبقت تفشي الوباء، والتي ستعقبه حتما.

مع ذلك فإن عالم ما بعد كورونا ما زال مبهماً: الوباء لم يبلغ ذروة تفشيه. والعلاج لم يظهر بعد. والاسوأ من كل ذلك أنه ليس لدى أحد من العلماء والخبراء تقدير علمي، لفترة هزم الوباء، ولا طبعا لموعد عودة الحياة "الطبيعية" السابقة الى كوكب الارض. التكهنات المتداولة حول تلك المواعيد لا تبشر ولا تهدىء، بل هي تساهم في جعل عبارة جورج بوش الابن السطحية.. أقرب الى النبؤة.    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها