الثلاثاء 2020/03/17

آخر تحديث: 09:07 (بيروت)

ورود على قبر الثورة

الثلاثاء 2020/03/17
ورود على قبر الثورة
سوريا ذكرى الثورة (Getty)
increase حجم الخط decrease
ما كان ينقص سوى كورونا لتمر ذكرى الثورة السورية بوصفها حدثاً ينتمي إلى زمن آخر. استذكار الثورة بين الأوفياء لها يشبه التقليب في ألبوم عائلي مشترك، تحضر فيه صور الأحبة من الموتى وذكريات زمنهم الجميل، الزمن الذي استشهدوا فيه بنبل، بينما تمكن الباقون من النجاة لأنهم سعوا إليها أو لأنهم حظوا بها اعتباطاً. يحضرون كأبطال في زمن عزّت فيه البطولة، أو صارت خارج سياق طاغٍ من الخيبة والهزائم والارتزاق.

يحضر كورونا هذه السنة ليضع السوريين أمام استحقاق آخر مؤلم، فهم من دون اختيار جزءٌ من بشرية مهددة بفناء قسم منها، بينما لم تُظهر البشرية ذاتها التعاطف المأمول مع إبادتهم. هم مهددون بالوباء أسوة بالبشرية، بعد أن كانت الإبادة من نصيبهم الخاص. ويلزم الإفراط في الأمل من أجل الظن أن البشرية الناجية من الوباء ستكون أعلى حساسية إزاء مقتلة بعيدة عن أسوارها الجديدة، إذ من المرجح أن يكون الناجون أشد أنانية وأقل اكتراثاً بغيرهم، ولو إلى حين. 

وإذا لم يقع حدث دراماتيكي في الأمد القريب، لعلها تكون الفرصة الأمثل لآلة الإبادة الأسدية وحلفائها بانشغال العالم بالوباء الجديد. في ظروف أفضل، قبل أسابيع قليلة، رأينا المنسوب المرتفع لتجاهل مأساة الواقعين تحت القصف في إدلب، ثم رأينا كيف تُركوا لتفاهم روسي-تركي لا يلحظ مأساتهم. قد يوقف الوباء عجلة السياسة والحرب في دول تحترم مواطنيها، وتسخّر إمكانياتها كلها من أجل مواجهته، أما مع الأسدية وحلفائها فلا يمكن توقع هذا السيناريو، بل من التعقل توقع أن يفكر القتلة في مثل هذه اللحظات الحرجة باقتناص ما يرونهم أفضل فرصهم.

قد تكون أخبار كورونا أيضاً ذريعة مناسبة للتخفف من عبء ذكرى الثورة، ومن عبء أسئلة عن المآلات. الأسئلة ذاتها كانت واجبة في سنوات ماضية، إلا أن التملص العام منها كان أسهل لأن نتائج الهزيمة العسكرية لم تكن على هذه الدرجة من الوضوح. كان ثمة متسع لمن لا يفصل بين الثورة والحرب، ويرى الثورة في كل ما هو مضاد للأسدية، أو يعمل تحت هذا الادعاء. يصادف اليوم أن تُستهلك تلك الذرائع، وأن تغيب معها المطالب بوقفة تأمل.

كنا خلال سنوات في أتون الحرب، وكان ينبغي التذكير دائماً بأن السوريين أعلنوا الثورة وأن الأسد والأسديين أعلنوا الحرب؛ هكذا كان الأمر منذ المظاهرات الأولى. فرضت الحرب الإلزامية قوانينها، وراحت المفاضلة تنحصر مؤقتاً بين الشر المطلق وما هو أدنى منه. لم يتهاون الأسد وشبيحته للحظة في إظهار الأسدية كآلة إبادة وشر مطلقين، فوظيفة الحرب لم تكن تحقيق الانتصار كي تُحسب منافعها التقليدية، وفي مقدمها كسب أهالي المناطق المستهدفة؛ كانت منذ لحظة إعلانها حربَ وجود. على هذا الأساس، تتوجب قراءة انحيازات الحرب من قبل الذين لم يكونوا يوماً "هم أو أحبة لهم" سوى مهددين بالإبادة، فالحرب الإلزامية تولّد انحيازاتها الإلزامية، ومن الخطأ الخلط بينها والانحياز إلى مثُل الثورة الأولى، باستثناء أولئك الذين يتطابق مفهومهم الأيديولوجي الخاص بالثورة مع حربهم الخاصة.

الذين اتخذوا موقفاً مناوئاً للحرب لم يقدّموا إجابات أو اقتراحات للتعاطي مع الأسدية التي أعلنت الحرب، ولم تكن لتتوقف عنها حتى لو توقفت الثورة. النسبة الغالبة منهم لم تنجُ من الانحيازات التي فرضتها الحرب، وهذه النسبة امتلكت ترف اعتبار الأسدية أهون الشرور، وصولاً إلى الاصطفاف معها مباشرة أو مواربة بخلاف اعتزال الحرب المعلن من قبلها. إذا نحينا ما يمكن استنتاجه حول رياء هذه النسبة، يمكن القول أن حرباً "جذرية" من هذا القبيل يصعب أن تمنح للمعنيين بها إمكانية الحياد.

في الحرب التي أعلنها الأسد منذ تسع سنوات، كانت آلة الإبادة تقول للسوريين أن الخسارة ممنوعة عليهم لأنها تعني الفناء، وكان النظام الدولي يقول لهم أن النصر ممنوع عليهم تحت ذريعة عدم وجود حل عسكري في سوريا. لا نعلم ما هو مخفي في دهاليز السياسات الدولية، المؤكد أن التدخل الإيراني المبكر جداً جداً "والذي لولاه ربما سقط الأسد بأقل التكاليف" أتى برضا دولي، وعندما فشلت الميليشيات الشيعية ظهر الرضا الدولي ذاته عن التدخل الروسي، أي أن التعويل على حرب استنزاف تدفع الأسد إلى تقديم تنازلات لم يعد له وجود، فضلاً عن تهافته في الأصل.

طوال سنوات الحرب كان التعبير عن الانتماء إلى الثورة لا يعدو كونه التزاماً بهدفها، أي حرية السوريين والانتقال إلى الديموقراطية، وهذا يختلف بالتأكيد عن وجود ثورة فعلية في سوريا. كان هناك متلهفون لإعلان نهاية الثورة وحصر زمنها بأقصر مدة، وكثر منهم قدّموا رواية عن ثورة لأيام أو أسابيع قليلة سرعان ما انحرفت عن غايتها، وهي سردية تتشابه إلى حد مستغرب مع دعاية الأسد عن مطالب مشروعة في الأيام الأولى سرعان ما تم تجييرها لأجندات خارجية. في المقابل من أولئك، كان هناك كثر ممن يعزّ عليهم الاعتراف بأن الثورة انتهت موضوعياً، وبأن القتال ضد الأسد غير محكوم بمعايير الثورة وأهدافها. كانت لهفة الأولين لطي صفحة الثورة سنداً للإنكار الذي مارسه القسم الآخر، إذ فُهم منها "عن حق غالباً" وجود رغبة في دفن أحلام التغيير.

قلائل الذين انتبهوا ونبّهوا إلى إنكار نهاية الثورة بوصفه تعلّقاً عاطفياً بما لم يعد له سند، وإلى أن إعلان وفاتها لا يحتم دفن تطلعات السوريين معها على النحو الذي يتمناه البعض. من وجهة النظر هذه، لإعلان الوفاة وظيفة العبور بالقضية السورية إلى عتبة مختلفة، وبأدوات جديدة عوضاً عن التي ثبت فشلها، وبخطاب أعمق من الخطاب المختزل الذي تم استهلاكه. في ذكراها التاسعة، قد يكون قاسياً وصادماً بالنسبة للبعض القول أن دفن جثة الثورة ووضع ورود على قبرها هو أفضل تكريم، أقلّه بدلاً من الاستمرار في خوض نقاشات غايتها عزل ذلك الجثمان عن كل من يريد رمي قاذوراته فوقه، سواء كان من أعدائها أو ممن يزعم الانتساب إليها.     

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها