الثلاثاء 2020/03/17

آخر تحديث: 07:56 (بيروت)

"مناعة القطيع" والسياسة الحيوية

الثلاثاء 2020/03/17
"مناعة القطيع" والسياسة الحيوية
شارع المسارح في لندن شبه مهجور (غيتي)
increase حجم الخط decrease
ليس أسهل من أن تجد اقتباساً من ميشال فوكو للتعليق على تطورات كورونا، وليس أنسب من هذا أيضاً (وإن كان هناك القليل من الإشارات إليه هذه الأيام). قبل أيام، وصلني بيان من منظمة بريطانية إسلامية، يحذر من التعدي المتزايد على الحقوق المدنية الأساسية، في سياق رد الفعل على الوباء: الحق في الحركة، والاجتماع، وغيرها. يستشهد البيان بفوكو، عبارةٌ ما عن مجتمع المراقبة، أو شيء من هذا القبيل. في اليوم التالي، أعلنت الحكومة البريطانية خطتها لمواجهة الجائحة، خطة مثيرة للجدل، وخطرة، خطة حرب في الحقيقة، تقبل بفكرة الضحايا، كشرٍّ لا بد منه، خطة لإدارة الخسائر، بمنطق الحد الأدنى. ليمر الوباء يجب أن يصاب 60% من المواطنين بالفيروس، ومن ثم يكتسب البريطانيون "مناعة القطيع". يبدو المصطلح نفسه مهيناً ومقلقاً. يخبر رئيس الوزراء، الجمهور البريطاني، بأن عليهم أن يكونوا مستعدين لفقد أحبائهم (ومن المفهوم أن يكون هؤلاء من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، الجماعة السكانية غير المنتجة). كعادته، جونسون مهووس بتشرشل- الذي كتب عنه كتاباً في الماضي- وبخُطب المعارك.


فوكو، صاحب "ميلاد العيادة"، لم يكن مهتماً فقط بالعقوبة والمراقبة والجنسانية، بل ربما كانت أكثر تنظيراته تأثيراً وفرادة وعمقاً، هي فكرته عن "السياسة الحيوية"، عن مساحة الالتقاء بين السلطة ومجالات الحياة، الحياة بمعناها الأكثر مباشرة وحسية، الحياة العضوية. تتعلق السلطة الحيوية بالمواطنين ككائنات بيولوجية، كأجساد تخضع للفحص والتصنيف والعلاج والعزل وحكم الحياة والموت أيضاً، لا في السجون والمدارس فقط، بل في العيادات والمشافي أيضاً وقبل أي مكان آخر. في عصر الانتشار الكامل للرأسمالية، تتوسع شبكة السلطة وتتعمق، لتمارس أدواتها، متجاوزة الأقاليم والفرد، ليصبح موضوعها السكان أيضاً، المصطلح الحديث جداً. السكان كإحصاء، كتعداد، كجداول من الأرقام للمواليد والموتى والمرضى ومعدلات كل هذا، كمعادلة مرتبطة بالكلفة، رسوم بيانية تخبرنا بنقطة الذروة والتشبع، نماذج رياضية مبنية على قوانين الاحتمالات. السكان كمورد بشري، عرضة للخسائر والفقد والتلف، كقوة عمل، كعبء اجتماعي في حالة العجز والشيخوخة.

هكذا، تصبح الحياة مجرد رقم، والموت أيضاً. حياة بعينها، لفرد بعينه، كما الحياة في المطلق. يكون هذا مقبولاً فقط، لأن فكرة السكان مؤسسةٌ على منطق "الحياد"، العلم والرياضيات والمنطق، المنفعة العامة والإمكانات والموارد، حسابات العرض والطلب. لا يمكنك إنقاذ كل حياة، ولا علاج كل مرض، والفيصل هو الكلفة والجدوى والنجاعة.

خطة "مناعة القطيع" تجسيد أمين لكل هذا، لمنطق الدولة الحديثة، لقسوته المتوارية وراء الجداول والرسوم البيانية، لوحشية المنظومة الرأسمالية في العموم. يطلق المسؤولون البريطانيون التصريحات عن الكلفة الاقتصادية لحظر التجمعات، تعطيل الدراسة سيكلف مليارات عديدة، يقول أحدهم. لم يصل الفيروس لنقطة الذروة بعد، يقول آخر، ينبغي الانتظار حتى يصل الانتشار إلى أسوأ نقطة، فتصبح الخسائر الاقتصادية للإغلاق الكامل للبلاد ذات جدوى. يأتي كل هذا مؤيَّداً من المستشارين الطبيين للحكومة، بنماذج رياضية للتنبؤ بفترة انتشار المرض حتى الربيع المقبل، وعدد المصابين في المشافي، ستة أو سبع ملايين.

يظهر شبح فوكو هنا أيضاً. يفكك، مع نقاد كثيرين للحداثة، وَهمَ العِلم "الصرف". تتصاعد أصوات المتخصصين معترضة على خطة "مناعة القطيع". الأمر لا يتجاوز كونه افتراضاً، لا يمكن الجزم به الآن. لا نعرف الكثير عن الفيروس بعد، ولا عن سلوكياته في المستقبل، العِلم يحتاج وقتاً ليثبت نظرياته، وقتاً طويلاً في الحقيقة، وإن ثبتت، ففي الأغلب سيتم نقد الكثير منها لاحقاً، وقوانين الإتاحة الأخلاقية لطرح علاجات بعينها في الأسواق تأخذ وقتاً أطول. فلاسفة الأبستمولوجيا، بعضهم يجد صعوبة في اعتبار الطب علِماً أصلاً. أما بعض تخصصاته، فلا تقابل الحد الأدنى من شروط العلمية بكل تأكيد.

ربما سيتضح لاحقاً نجاح خطة "مناعة القطيع"، وربما لا. الأمر ببساطة مقامرة سياسية، رهان على مؤشرات البورصة بمنطق الروليت الروسي، الفارق فقط أن جونسون يطلق رصاصه على المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة، لا على رأسه. موازنة بين البشر والاقتصاد، عشرات الآلاف من الأرواح أو ربما مئات الآلاف من الأرواح، في مقابل تعطيل عجلة الإنتاج بالكامل؟   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها