الأحد 2020/03/15

آخر تحديث: 08:48 (بيروت)

كورونا..ما بعد الكابوس

الأحد 2020/03/15
كورونا..ما بعد الكابوس
حالة الطوارئ في مدينة ميلانو الايطالية بعد انتشار فايروس كورونا (Getty©)
increase حجم الخط decrease
متى ينتهي هذا الكابوس؟ هل سينتهي فعلا، كما يقولون، بعد أسابيع أو أشهر أو أكثر؟ هل تمتلك البشرية القدرة على الصمود والبقاء؟ وما هو عدد الضحايا الذي سيحصده الفيروس القاتل من أصل ثمانية مليار نسمة، يتقاسمون اليوم وللمرة الاولى في تاريخ الوجود الانساني على كوكب الارض شعوراً واحداً بالخوف على المصير، بعدما كانوا حتى الامس القريب، يتمتعون بإحساس موحد بالتفوق على جميع من سبقهم من شعوب وحضارات وثقافات..

لا أحد يجرؤ حتى الآن على السؤال عما يمكن ان يحصل إذا ما فشل الطب الحديث وخبراته وكفاءاته وأدويته وأدواته في مواجهة التحدي. الثابت ان ذلك القطاع يعمل بأقصى طاقته، في مختلف أنحاء المعمورة. والواضح أن تلك الطاقة تتقدم بأشواط على أداء القطاعات الاخرى، لاسيما القطاع السياسي الذي إخترقه الفيروس وتسلل الى القصور الملكية والرئاسية والمقرات الوزارية والنيابية، ليحقق ما عجزت عنه فيروسات شقيقة سابقة، إكتفت بالعامة من الناس، من دون القادة والمسؤولين.  

الثقة كبيرة برجال ونساء العلوم الطبية الحديثة وتجاربهم وخبراتهم وإكتشافاتهم الباهرة، التي لن تعجز عن وقف ذلك الغزو الرهيب، وتدميره على نحو ما فعلت في غزوات عديدة سابقة ومشابهة. لكن ما هو الوقت الذي ستستغرقه تلك المهمة؟ وما هو الثمن الانساني، الاقتصادي، الاجتماعي، الذي سيدفعه العالم بأسره، من أقوى دوله الى أضعفها، من أرقى شعوبه وأغناها الى أشدها فقراً وتخلفاً.

ثلاثة أشهر فقط، على بدء الغزو الفيروسي، فرضت تغييراً جذرياً للحياة على كوكب الارض، الذي كان يبدو مثل قرية عالمية مفتوحة، فتحول بين ليلة وضحاها الى معازل ومحاجر مسيجة بالابراج والحواجز والاسلاك الشائكة، تفوح منها روائح التعقيم، ويرتدي سكانها ثياباً أشبه ببذات رواد الفضاء، ويتواصلون بلغات جديدة، أهمها الاشارات والرموز الخارجة من المستشفيات والمستوصفات والمختبرات الطبية، ويتضاربون على رغيف خبر، ويتنافسون على مادة للتنظيف او التعقيم.   

تبدل سلوك البشر في مختلف القارات والبلدان، كأن ثمانية مليار إنسان على موعد مع يوم القيامة، أو مع حرب جرثومية أو نووية مدمرة..أو على الاقل على شفير مجاعة كبرى. إنقلبت قوانين العمل، وإرتبكت قواعد الاتصال، وإنقطعت وسائل النقل. صارت الطائرة بؤرة فيروسية مميتة، بات المطار موقعاً موبوءاً، يذكّر بالمرافىء البحرية التي كانت سفنها تنقل في القرون الماضية الاوبئة والامراض الفانية، لمدن وشعوب وإمبراطوريات.

اليوم، كل شيء يسير عن بعد، من وراء حاجز او كمامة، أو من خلال شاشة. الإتصال الجسدي الذي كان حتى الامس القريب، عنواناً للإنفتاح او التباهي او التنوع، صار محرماً. مجرد لمسة أو نظرة، أو عطسة طبعاً، يمكن ان تؤدي الى الهلاك. الفرد المنعزل، المنطوي على نفسه، المتوجس من الآخر، الغارق في القلق، هو الفرد الطبيعي، القادر على البقاء ، على العيش في أضيق بقعة جغرافية ممكنة لا تزيد مساحتها عن بضعة كيلومترات مربعة، على التكاثر الذي ينقطع يوماً بعد يوم عن مغزاه الطبيعي، على العمل من دون الحاجة الى إلتقاء الانفاس أو التعابير او الضحكات او الدمعات الاخرى.

ترى هل هذا هو المستقبل الذي حددته الطبيعة، وقررت فرضه بالاكراه، مستخدمة ذلك الفيروس القاتل؟ أم هو التطور المنطقي الذي تستدعيه وسائل الاتصال والتواصل العصرية القادرة على تحويل الشاشة الى سبيل وحيد للآخر، وعلى تحويل الطائرات المسيّرة والرجال الاليين الى بدائل إلزامية. ما تحققه شركات التكنولوجيا المنتجة لهذه الوسائط والآلات من أرباح ومكاسب مادية تفوق الخيال، وتتعدى كل ما يذكر عن أرباح تحققها الآن الشركات المنتجة للمواد الغذائية أو لادوات التنظيف والتعقيم مثلا.

لا، ليس يوم القيامة هو الذي يقترب. هو يوم آخر، تولد فيه كائنات بشرية تستخدم وسائط التنقل عبر الاثير،من دون الحاجة الى وسائل النقل التقليدية التي ثبت خطرها، وتستفيد من أدوات الانتاج الحديثة، من تكنولوجيات العصر وبرامجه المذهلة، لتصيغ عقداً إجتماعياً جديداً، يكمل العقد الذي صاغته الثورة الصناعية في القرن الماضي، ويتوج إنتصار الثورة التكنولوجية التي تلتها، ويبدع في الاقتصاد والثقافة والفن، ويبتدع كيانات مصغرة تعيش داخل فقاعات، وتكتفي بالتفاعل عن بعد.. بإعتباره السبيل لحفظ النوع البشري ولصون كوكب الارض. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها