الثلاثاء 2020/02/25

آخر تحديث: 19:31 (بيروت)

ميتات مبارك الكثيرة

الثلاثاء 2020/02/25
ميتات مبارك الكثيرة
لاعب الزمن (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لجيلي ولأجيال أصغر، تماهت صورة مبارك مع الزمن. ذكريات غائمة وراسخة بهدوء وبلادة كعصره، خطبته في عيد العمال، والأسرة جميعها في الإجازة الرسمية، يلتفون حول شاشة التلفاز الأبيض والأسود، بتحفز فاتر في انتظار الخطبة الرئاسية. بعض الحضور يهتف "المنحة يا ريس"، صيحات وأبيات من الشعر الركيك تتردد في القاعة، وذراعاه ممدوتان أمامه وبيد مرتخيه يشير لهم بالهدوء، ثم زفرات الراحة من والدي بعد إعلانه الزيادة السنوية المعتادة في رواتب الموظفين. عاماً بعد عام، كان المشهد يتكرر بتفاصيله، بلا دهشة ولا إثارة، بل خدر مطمئن بتدفق الوقت في ثبات، ولا شيء يتغير، مؤكداً بإيقاع تعليقات المذيع الوقور في خلفية البث الحي.


محاولات اغتيال شبه ناجحة، حرب طويلة مع الإرهاب في محافظات الصعيد، تمرد للأمن المركزي، تقلبات حادة في توازنات المنطقة، حروب واتفاقات سلام، عالم الحرب الباردة ينهار، تحول داخلي للسوق الحر، وتفكيك للتعاقد الاجتماعي، طبقات تولد وأخرى تتحلل. كل هذا حدث في ثلاثة عقود بدت خاملة على السطح، وحفرت صورة مبارك المطبوعة تقاطيعها في الوعي الباطن لأجيال متعاقبة، علامة مائية لموت الزمن.

فهم مبارك، بغريزة البيروقراطي الصغير والديكتاتور الكبير، جوهر السلطوية. أن يرسخ صورته كضد للزمن، لا كنقيض لحركته. بل أن يكون هو نفسه مرجعية لمواقيته، وظهوراته الموسمية وهو يلوح بيده بارتخاء على الشاشات علامات على خط الوقت الممتد مستقيماً، وبلا نهاية. خط هو ضامنه الوحيد، ولا يوجد سوى به. لم يكره مبارك التغيير، كما أراد أن يظهر لمن حوله، لكن كل شيء كان يحدث بفعل يد سحرية خفية، بطيئاً وصامتاً وقدرياً. حتى الآلاف من ضحاياه، من ماتوا في القطارات المحترقة، وعلى أرضيات المشافي القذرة، في العبّارات وتحت أنقاض المباني المتهالكة وحوداث الطرق، ماتوا ميتات فظيعة وبطيئة، لكن، كأنهم ارتضوا دورهم في لعبته، قضوا في هدوء صامت وبلا ضجيج.

في عقده الأخير، ومع ظهور علامات السن متأخرة على وجهه وجسده المتداعي، صدق المصريون بأن مبارك لا يموت، حقاً لا من باب البلاغة. يخبرك سائقي تاكسي، الواحد بعد الآخر، بأنه يحقن نفسه بالزئبق الأحمر، سرّ الخلود الذي يجدونه في مقابر الفراعنة. صورة المومياء المحنطة لم يقاومها مبارك، بل ربما حبذها. فليس هناك ما هو أكثر خلوداً من مومياء، يعيش في مقبرته ميتاً وفي يده مفاتيح الحياة إلى الأبد.

فهم مبارك لعبته جيداً مع الزمن. في محاكمته، ظهر على الشاشة ممدداً على سرير المرض، متداعياً وهشاً، شعره غير مصبوغ للمرة الأولى، يحرك يديه المرتعشة بصعوبة، صوته خافت وضعيف. أسمع همهمات الشفقة من والدي الذي لطالما كره مبارك. انتصار الزمن المفاجئ هو ما يفزعه، فكيف يشيخ البطريرك الساقط، هكذا فجأة!

يموت مبارك بعدها ميتات كثيرة، ويعود إلى الحياة مرات أكثر، جالساً بشعر مصبوغ، يلقي النكات ويتحدث عن ذكرياته مع الحرب والسلام، بثقة ووداعة بليدة كعادته، كان آخرها قبل شهور قليلة عبر "يوتيوب". كما يليق به، ككائن خرافي، يُبعث من الرماد في دورة الخلود الثقيل، يفقدنا ثقتنا في فكرة الموت نفسه، في إمكانيته كعلامة وحيدة على حركة الوقت.

أسمع الخبر في الصباح، وأنتظر. تتداول وسائل الإعلام جميعها الخبر، وأقرر الانتظار حتى يتأكد الخبر، ولا يأتي التأكيد بأي مشاعر نحو موت الرجل الذي أفسد حيوات أجيال كاملة. لا غضب ولا حزن ولا فرح، لا شيء على الإطلاق. ينتصر مبارك مرة أخرى، ينتصر بشكل نهائي. جعلنا نعتاد فكرة موته. نعتادها، نستسيغها، ونتوقعها، إلى حد أنها تبدو وكأنها لم تحدث.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها