الثلاثاء 2020/02/18

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

شاكوش: العادي في وضع الاستثناء

الثلاثاء 2020/02/18
شاكوش: العادي في وضع الاستثناء
حسن شاكوش
increase حجم الخط decrease

"الشعبي" مصطلح غائم، وليد ترجمة فضفاضة عن اللغات الأوروبية. في العربية، تتمدد الكلمة لتعني الفولكلوري، وكذلك الجماهيري واسع الانتشار، أو التجاري، ليعبّر عن نوع بعينه من الانتشار يرتبط بمرحلة متأخرة من الرأسمالية. وبشكل أكثر غموضاً، تم ربط مصطلح "الشعبي" بالهوامش الحضرية والبروليتاريا الرثة والثقافات الفرعية الدنيا. وأكثر ما لحق به الإلتباس، كان الموسيقى الشعبية، فالأغاني الفلاحية أو النسخ الأكثر حداثة منها والسِّيَر المغناة وأغاني الموالد، كل هذا يقع في نطاق الشعبي بوصفه تراثاً فولكلورياً. لاحقاً، بسط التعريف نفسه، ليشمل الموجة الجديدة من الأغاني التي واكبت ظهور الكاسيت، وإفلات الذائقة الجماهيرية من يد السلطة الممركزة ونخبها. بحسب هذا التصور، أحمد عدوية، شعبي، ومصطفى كامل ومغنّو ما يُعرف بـ"المهرجانات". هكذا، توضع أغاني السمسمية مع حسن الأسمر، جنباً إلى جنب مع محمد رشدي وكليبات محمد رمضان، في سلة واحدة.

حين أثارت أغنية "بنت الجيران" لحسن شاكوش، جدلاً قديماً ومتجدداً، لم تُحرم الجماليات الشعبية ممّن يدافعون عنها من منطلقات نخبوية. الحد الأدنى، كان الإقرار بالأمر الواقع، فجماهيرية الأغنية وصنفها الموسيقى مثبتان ويتطلبان القبول بها، حتى من دون حاجة إلى اعتراف من أحد. أما الميّالون إلى تصور جدالات من هذا النوع، كصراع بين الشرائح المحافظة من الطبقة والوسطى والطبقات الدنيا فأخذوا صف الثانية، فالشعبي لطالما أحاطته هالة أصالةٍ ما، سواء بمعناها الفولكلوري أو الطبقي. وقامت الحملات التي شنها البعض في شبكات التواصل الاجتماعي لمقاطعة محمد رمضان وشاكوش وأغاني المهرجانات، بتأكيد الفهم الطبقي للمسألة. وبالتوازي مع قرارات هاني شاكر، ممثلاً لنقابة الموسيقيين، بمنع غناء المهرجانات في القاعات والأندية والمسارح، أخذ الدفاع عن شاكوش ورفاقه الشعبيين بُعداً آخر، أكثر تسييساً. فالصراع صُوّر بين القديم والجديد، بين الدولة والمؤسسات المتحلقة حولها من جهة، وبين ذائقة عوام الناس من جهة ثانية. أو بمعنى أكثر درامية، هو صراع بين السلطوية وخصومها.


لكن تلك المعركة تبدو متخيلة أكثر منها واقعية. فهاني شاكر ليس الدولة، والنقابة التي كان على رأسها من قبله المطرب "نصف الشعبي" مصطفى كامل، لا تمثل ذائقة البرجوازية. وفي الجهة الأخرى، شاكوش ومحمد رمضان وجمهورهما العابر للطبقات، لا يمثلون المهمش أو الحرافيش. فكلاهما يمكن تصنيفه بالجماهيري والتجاري واسع الانتشار، المتمتع بعلاقات وثيقة برأس المال والسلطة المباشرة. ففي وقت يحكم النظام الحاكم قبضته على الإعلام والإنتاج الفني بشكل كبير، يُسمح لشاكوش بالغناء في الاستاد، أما محمد رمضان الذي يؤدي دوراً متقدماً في دعم بروباغندا السلطة ويتمتع بحرية حركة واسعة في المنصات الفنية الأكثر حصرية، فلا يمكن تصنيف منتجه ومستهلكيه بمعاداة السلطوية، حتى بمعناها الإجتماعي أو الطبقي.

يؤدي هاني شاكر ونقابته، دوراً ثانوياً، مضحكاً ومأسوياً، تستجيب له فئة اجتماعية معتبرة، تجد في قدرتها على المشاركة في حملات مقاطعة "المهرجانات" في السوشال ميديا، قليلاً من التحقق، وقدرة على الانتظام الجماعي والفعل العام، وتعبيراً جزئياً عن هوية وذائقة جمعية. وما زالت نقابة الموسيقيين محتفظة بسلطة خارقة، هي منح تصاريح الغناء ومنعها، لكنها تظل محكومة بحسابات سياسية ورأسمالية أعلى منها. يطلق بعض نواب البرلمان، تصريحات بخصوص المسألة، وينخرط الجميع في نقاشات جادة أو خفيفة، عن الجماليات، الشعبي والرأسمالي، ذائقة البرجوازية والإخصاء الإجتماعي، عن معنى الفن والحرية وسلطة المنع، عن النقابات المهنية ودورها والوصاية على الذائقة العامة، عن التقنيات الموسيقية ومعايير الحكم الجمالي عليها، عما حدث للمجتمع المصري وفنونه ونخبته.. فيوحي هذا كله بمجتمع في حالة اعتيادية، يجري نقاشات حول الذوق والجماليات، وتؤدي فيه النقابات المهنية والبرلمان أدوارهما، وينظم فيها المواطنون أنفسهم لصالح قضايا عامة وجدالات جمالية، ويدافع آخرون عن الحق في الغناء أو يحتجون على عدم دستورية تراخيص الغناء النقابية.

ليس هذا إلهاء من قبل السلطة، كما سيذهب البعض، ولا مجرد تفريغ لطاقات أخرى مكبوتة بسبب إغلاق مجال السياسة. بل لعله مَيل المُحاصَر إلى التعبير عن الذات، والجدل في ساحة عامة، مدفوعاً بمسؤولية أخلاقية تجاه الجماعة، ورغبة في المساهمة في تشكيل الذائقة الجمالية العامة. يتداخل هذا مع الكثير من سوء الفهم والتعبير، وتعارُض المصالح وضيق الأفق. لكن هذا الجدل يظل الأمر الأكثر عادية ومنطقية، في مجتمع في حالة استثناء يختفي فيه الناس فجأة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها