السبت 2020/02/01

آخر تحديث: 06:45 (بيروت)

في الارتزاق السوري

السبت 2020/02/01
في الارتزاق السوري
increase حجم الخط decrease
يتوالى سقوط مدن وبلدات في محافظة إدلب وعلى مشارف حلب، بعد توارد أخبار عن تجنيد أنقرة مرتزقة من "فصائل معارضة" للقتال هناك إلى جانب حكومة الوفاق ضد قوات حفتر. حسبما هو مشاع، لم تدخل جبهة النصرة بثقلها في المعارك التي أدت إلى خسارة تلك المساحات الشاسعة والحيوية، واقتضى الأمر مفاوضات وشروط من قبلها كي تسمح لفصيل من أبناء المنطقة بالعودة والمشاركة في الدفاع عنها. هي صورة شديدة البؤس لأولئك الذين يرون الوضع بعين واحدة، عين القتال ضد نظام متوحش، من دون رؤية السياق بأكمله، ومن دون الانتباه إلى المقدار الهائل من المرتزقة السوريين تحت مسميات مختلفة.

مع نهاية عام 2011، كنت أبحث عن عامل صيانة بسبب عطل في تمديدات الحمّام في بيتي، وكان مألوفاً في دمشق توافر العمال في المحلات التي تبيع مستلزمات الصيانة. أصحاب تلك المحلات كانوا يعتذرون عن وجود العمال باقتضاب، ولا جواب لديهم عن كيفية العثور على واحد منهم بينما كان ذلك يسيراً جداً قبل شهور قليلة. أخيراً سيتبرع أحد أصحاب المحلات بالجواب بعصبية: لم يعد لدينا عمّال، لماذا سيعملون هنا ويتعبون أنفسهم؟ كلهم تطوّعوا في الدفاع الوطني "ميليشيات الشبيحة"، حيث يقبضون رواتب أعلى ويتمخترون بالبواريد ويفرضون هيبتهم على الأهالي.

ميليشيات الشبيحة كانت تُموَّل وتُدرَّب بإشراف إيراني، والأهم أن طهران كانت تدفع لمنتسبيها رواتب تفوق ما يدفعه الأسد لقواته. في صيف 2013، صار بإمكانك أن تسمع في الشارع تسعيرة الذهاب إلى القتال مع قوات حزب الله والأسد في يبرود، كانت التسعيرة تتراوح بين سبعين وثمانين ألفاً لشباب قسم منهم يخشى السَوْق إلى الخدمة الإجبارية في قوات الأسد مع راتب هزيل جداً، وقسم آخر يراوده الجشع إلى اكتساب الهيبة مع التكسب من سلب ممتلكات الأهالي بعد السيطرة على مناطقهم. إثر التدخل الروسي، وعندما ستبدأ موسكو بإنشاء ميليشياتها الخاصة التابعة نظرياً لقوات الأسد، سيكون لمنتسبيها أيضاً ميزات مالية تفوق أقرانهم لدى قوات الأسد، مع التنويه بأن منتسبي ميليشيات الأخير منذ زمن بعيد "مثل الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وقبلهما سرايا الدفاع" يحظون بميزات مالية لا يحظى بها نظراؤهم في باقي قطعات الجيش.

في عام 2013 أيضاً، أخبرني شاب يقيم في أحد أحياء حلب الشرقية عن نيته افتتاح محل لبيع الكاتو والمثلجات، بسبب انعدام فرص العمل في منطقة مدينية محاصرة. كانت الفكرة غريبة، فالباقون في تلك المناطق بغالبيتهم من الذين يكابدون من أجل الحصول على الخبز، ولا يحظون بترف شراء تلك الكماليات لهم أو لأولادهم. فضلاً عن ذلك، تحتاج المثلجات إلى تغذية كهربائية متواصلة، أي إلى مولّدة كهربائية خاصة في ظل الانقطاع الدائم للكهرباء ما يزيد في الكلفة، إلا أن استغرابي سيزول مع معرفة أن الزبائن المستهدفين هم مقاتلو الفصيل المسيطر على المنطقة، والذين يقبضون رواتب تمكنهم من الحصول على تلك السلع التي لا يحلم بها أطفال الآخرين. في ذلك الوقت ذاع خبر قائد فصيل كان قد طلب من فصيل آخر مبلغ 200 مليون ليرة، كي يسمح له بالعبور عبر منطقة سيطرته لمهاجمة مقر المخابرات الجوية المجاور. ذلك الفصيل بدأ سيرته بالسيطرة على المنطقة الصناعية شمال حلب، فارضاً على أصحاب المعامل أتاوات لقاء وعد بحراستها، وكان يصر في لقاءاته الإعلامية على أن تمويل فصيله ذاتيٌّ.

قبل نحو شهر من الآن شاع خبر افتتاح مطعم في إسطنبول يملكه قيادي جيش الإسلام محمد علوش، كلفة المطعم الضخم قُدّرت بأكثر من 20 مليون دولار. في حزيران 2017، تسرب تسجيل بصوت القيادي نفسه يتحدث فيه عن طلب من الائتلاف انضمام جيش الإسلام إليه، وبحسب التسجيل يخبر الوسيط بين الطرفين بأنهم "أي جيش الإسلام" قد تغيروا كثيراً كثيراً كثيراً، وأنهم مستعدون للانضواء في الائتلاف مقابل حصتهم التي يقدّرها بمليون دولار. مع نهاية شباط 2016، كان جيش الإسلام مشغولاً بالسيطرة على مواقع تابعة لفيلق الرحمن في زملكا وحدثت اشتباكات بين الجانبين، بينما كانت قوات الأسد تهاجم بضراوة منطقة المرج في الغوطة الشرقية نفسها، وكانت سيطرتها على المرج تعني حرمان الغوطة "المحاصرة تحت شعار الجوع أو الركوع" من سلتها الغذائية التي تعين نسبياً الأهالي على تحمل وطأة الحصار. وكما نعلم ازدهرت تجارة تهريب المواد الغذائية بين حواجز الأسد وقادة بعض الفصائل في الغوطة، وفيما عدا إثراء بعض القادة كان لتلك التجارة نصيب في استقطاب مقاتلين للفصائل الأكثر ثراء على حساب الفصائل الأصغر التي لم تصمد بين نار الأسد ونار أمراء الحرب.

جبهة النصرة من التنظيمات التي اكتسبت سمعة حسنة لدى بعض الأوساط، بسبب تعففها لوقت طويل عن الأملاك الخاصة وعن فرض الأتاوات، بخلاف تشددها في موضوع الحريات العامة والشخصية. ضخامة التمويل الخارجي وحدها لا تفسر التعفف، فالنصرة، أسبق من غيرها، أدركت أهمية السيطرة على ممتلكات عامة مثل مخازن القمح أو الطحين، والأهم هي السيطرة على مناطق نفطية، والجبهة أول جهة كان لها نشاط تجاري تبيع بموجبه النفط لسلطة الأسد. سلطة الأخير لم تكن غائبة عن إذكاء صراع المصالح في تلك المنطقة، فقد وقعت مع وحدات الحماية الكردية عام 2012 عقداً تقوم بموجبه بحماية قسم من آبار النفط لقاء مبلغ 20 مليون ليرة شهرياً. وحدات الحماية بعد تمكنها ستستأنف تجارة النفط مع الأسد، والعرب والأكراد الذين يردّون الافتراق بين الجانبين إلى ذلك العام يجهلون أو يتجاهلون الدوافع الاقتصادية المغرية جداً لدى الطرفين لصالح التركيز على شعارات تبدو أكثر نبلاً.

إننا نتحدث عن اقتصاد حرب، هو الوحيد الذي شهد انتعاشاً بل هيمنة خلال السنوات الماضية، وكان الأقدر على استقطاب "أيد عاملة" في ظروف البطالة والتدهور المعيشي الحاد. لقد رأينا مثلاً كيف اضطر مقاتلو بعض الفصائل إلى "مصالحة" الأسد بشروط تتضمن الانخراط في قواته، وكان سهلاً على البعض منهم نقل البندقية من كتف إلى كتف والذهاب إلى قتال من يُفترض أنهم كانوا رفاق الأمس. قبل ذلك كله، شهدنا وفق "قوانين السوق" كيف تلتهم إمارات الحرب الأثرى فصائل صغيرة لم يتمكن مقاتلوها من الاستمرار طويلاً بلا دخل يعيل أسرهم. بالتأكيد ثمة مقاتلون حملوا السلاح من أجل إسقاط الأسد، ومنهم من بقي على هدفه، ومنهم من إمتهن القتال بصرف النظر عن أهدافه. في الحصيلة العامة، وتحت مسميات عديدة، لدينا مئات ألوف المرتزقة بأسماء مختلفة، يخوضون الحرب تحت إشراف قوى الخارج المتصارعة، حتى أصبح لدينا مخزون للتصدير إلى الخارج. لدينا فوق ما سبق تفاصيل جمة، وتأثيرات اجتماعية مهولة، تستحق دراسات وأبحاث عن هذه الظاهرة الفريدة.

من المتوقع أن نواجه بالسؤال المتذاكي ذاته: لماذا إذاً تدافعون عن المناطق التي يسيطر عليها هؤلاء ضد قوات الأسد؟ الجواب يقدّمه الأهالي الذين بقوا تحت سيطرة تلك الفصائل، رغم كل خطاياها، وفضلوا ويفضّلون اليوم النزوح إلى المجهول على العودة إلى سيطرة الأسد. الجواب يقدّمه أيضاً أولئك الذين حملوا معهم حتى شواهد قبور أحبابهم كي لا تدنّسها قوات الأسد، والأخيرة تؤدي قسطها من الجواب، إذ يكفي الاستشهاد بقتلها الرجل المسن الوحيد الذي رفض مغادرة معرة النعمان مع بقية النازحين، ثم سكب البنزين على جثته وإحراقها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها