الأربعاء 2020/12/30

آخر تحديث: 01:10 (بيروت)

المذبحة المصرية الصامتة

الأربعاء 2020/12/30
المذبحة المصرية الصامتة
increase حجم الخط decrease
الأرقام التي كشفها تقرير "بي بي سي" عن عدد الوفيات في مصر، خلال الموجة الأولى لوباء كورونا، صادمة، وإن لم تكن مفاجئة. فبحسب بيانات للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، الفارق بين متوسط عدد الوفيات خلال الأعوام الخمسة الماضية وبين العام الجاري، يصل إلى 60 ألف وفاة زائدة، في ثلاثة شهور فقط، هي مايو ويونيو ويوليو. حوالى 40 ألف وفاة منها، وقعت في شهر واحد، هو يونيو، رقم مروع بلا شك. ولا تتضمن تلك الإحصاءات بقية الشهور منذ انتشار الوباء مطلع العام، ولا الموجة الثانية التي بدأت نهاية شهر نوفمبر، وربما وصلت ذروتها هذا الشهر بمعدلات يقر الجميع بأنها تفوق الموجة الأولى بكثير. بيانات الحكومة المصرية تضع العدد الإجمالي للوفيات، منذ بداية الوباء، فوق السبعة الآف بقليل.

لكن، وبالقياس لضحايا الموجة الأولى بحسب بيانات الجهاز المركزي، فإن تقديرات متحفظة تذهب إلى عدد وفيات قد يبلغ 150 ألف بنهاية الشهر المقبل، وتخمينات أكثر تشاؤماً تدفع بالرقم إلى ربع المليون ضحية في الفترة نفسها. وليس أمامنا سوى التخمين الآن، وحتى في ما بعد، فالأرقام الحقيقية ربما لن تنشر أبداً.

تعاقدات الحكومة من اللقاحات لم تصل حتى الآن، وعمليات التطعيم ستستغرق شهوراً بعد وصولها، في الأغلب حتى نهاية العام المقبل، وبلا إجراءات مشددة فورية (لا يظهر النظام راغباً في اتخاذها)، وبالتالي فإن موجة ثالثة أكثر شراسة لا يمكن تفاديها، وفي سيناريو أكثر كابوسية، لكنه غير مستبعد، ربما تلحق بها موجة رابعة وأكثر.

النظام المصري الذي لطالما رأى السكان عبئاً وزيادتهم مشكلة، وشدد في خطابه المرة بعد الأخرى على إنقاذ الوطن، كفكرة مجردة بلا مواطنين، أو بالتضحية ببعضهم لأجل هذا الغرض تحديداً، لا شك أن لديه ما يكفي من البيانات ليعرف حجم الكارثة. مئات الآلاف من الضحايا، معظمهم على الأغلب من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، ليسوا رقماً كبيراً في حساباته للخسائر، أو هم مجرد رقم، فداء لعجلة الإنتاج وبيانات الاقتصاد. فالحكومة بعدما رفعت معظم الإجراءات الصورية التي اتخذتها في البداية، لم تكتفِ بترك المواطنين لمواجهة الموت، بأنفسهم. بل عمدت إلى شن حملة مستمرة من التضليل، والاعتقالات التي طاولت أطباء وصحافيين ومواطنين، بتهمة بث الرعب ونشر أخبار كاذبة عن الوباء، كانت الوجه الأوضح من الخطة الممنهجة لإخفاء الحقائق. يوماً بعد يوم، تنشر وزارة الصحة أعداد الإصابات والوفيات، والتي لا يمكن وصفها سوى بالملفقة، ولا تتجاوز ربما خمسة في المئة من الأعداد الحقيقية، في حين ترفض الجهات المعنية وضع الكورونا كسبب للوفاة في معظم الأحيان.

البيانات المزيفة، مع الترهيب الروتيني لوسائل الإعلام والأطقم الطبية بقصد إسكاتها، كان يعني بث شعور عام بالأمان الوهمي، وكان حافزاً على ترويج نظريات لا أساس لها من الصحة، حول أسباب الانخفاض الاستثنائي للإصابات والوفيات في مصر، مثل الجو الدافئ والتركيب الجيني للمصريين وجهازهم المناعي المحصن ضد الفيروسات من كثرة التعرض لها. كل ذلك غرر بالمواطنين، وشجعهم على العودة إلى الحياة الطبيعية والتراخي في اتخاذ إجراءات الحماية الشخصية. بل وشارك ممثلو الدولة، أحياناً كثيرة وبشكل مباشر، في ترويج الأكاذيب شديدة الخطورة، والمضللة إلى حد إجرامي. فيخرج حمدي إبراهيم، عضو اللجنة العلمية لمكافحة فيروس كورونا، ليصرح لوسائل الإعلام بأن إجراءات الإغلاق لن تفيد، بل ويضيف أن زيادة الإصابات بكورونا هو نوع من التحصين الجماعي للشعب. فالمسؤول الحكومي عن مكافحة الفيروس، بعد إيحائه بأنه لا طريقة لتفادي العدوى، يوجه دعوة ضمنية لعموم المصريين ليحضهم على الإصابة بالمرض كإجراء وقائي منه. يترافق هذا كله، مع حملة مضادة، ومتناقضة عمداً مع الخطاب الرسمي نفسه، بإلقاء اللوم على المواطنين، وخصوصاً الطبقات الدنيا، لعدم التزامهما بالإرشادات الصحية. هكذا، لا يمكن إلقاء اللوم سوى على المواطنين أنفسهم.

المذبحة مكتملة الأركان، التي يرتكبها النظام ضد مواطنيه اليوم، تذكرنا بأن الحقوق السياسية ليست بالضرورة أهدافاً في حد ذاتها، بل وسائل أيضاً، كما أنها غايات. الحق في المعرفة، والحق في التعبير والاجتماع، حريات الصحافة والشفافية وآليات المحاسبة والعمل النقابي، ليست رفاهيات ديموقراطية، بل سبيلنا إلى الحقوق الأكثر أساسية ومباشرة، الحق في الحياة نفسها، والعيش بكرامة بلا خوف أو عوز. فضحايا القمع السياسي ليسوا عشرات الآلاف المغيبين في السجون فقط، بل أيضاً ضحايا مذبحة طويلة، تطاول كل بيت، بوتيرة مفزعة، بلا جلبة كالعادة، وبشكل مستمر ولامبالٍ.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها