الأحد 2020/12/27

آخر تحديث: 08:29 (بيروت)

مفوضية الانتخابات ضرورة وليست ترفاً

الأحد 2020/12/27
مفوضية الانتخابات ضرورة وليست ترفاً
انتخايات الائتلاف الوطني السوري المعارض 2019
increase حجم الخط decrease
حُرم السوريون من ممارسة الديمقراطية والتمتّع بحقوقهم السياسية منذ انقلاب البعث عام 1963 إن لم نقل منذ الوحدة مع مصر، وكانت الانتخابات الحقيقية التي شهدوها محصورة بالنقابات والاتحادات والجمعيات الأهلية عموماً، وحتى هذه الأخيرة بدأت تُفرّغ من مضامينها الديمقراطية والحرّة شيئاً فشيئاً بدءاً من انقلاب حافظ الأسد عام 1970. ومع تحوّل الحراك السياسي والنقابي الذي بدأ يشتدّ منذ العام 1978 إلى مواجهات مسلّحة مع الطليعة المقاتلة من الإخوان المسلمين، تم القضاء على هذه الفسحة الديمقراطية الصغيرة نهائياً. حيث لم يكتف النظام بسحق الإخوان المسلمين عسكرياً فقط، بل قضى على كل الحركات السياسية المعارضة جملة واحدة وقام بحلّ النقابات وتغيير قوانينها والسيطرة عليها بشكل مطلق من خلال حزب البعث. بعد ذلك صارت جميع انتخابات مجلس الشعب والمجالس المحلية مهرجانات جوفاء معروفة النتائج سلفاً، وانتخابات الرئاسة استفتاءات بنعم لا غير للتسبيح بحمد الأسد الأب ومن بعده الوريث الابن.

على المقلب الآخر لم تستطع الأحزاب المعارضة السورية أن تكون مختلفة عن هذا النظام قبل ثورة آذار 2011، فلم نسمع عن أي تجربة انتخابية حقيقية ضمن طائفة الأحزاب العلنية مثل أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، أو شبه السرية مثل بعض الأحزاب الناصرية والشيوعية، أو تلك التي كانت تعمل بسرية تامة مثل حزب العمل الشيوعي والإخوان المسلمين. بعد الثورة لم يكن الحال بأفضل مما سبقه أيضاً. وباستثناء محاولات تكاد تكون شبه نادرة قامت بها بعض المجالس المحلية وبعض الهيئات الثورية، نكاد لا نجد أيّ محاولة خارج إطار المحاصصات والتوافقات المصلحيّة الضيقة، بدءًا بالمجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطنية، مروراً بمنصات موسكو والقاهرة والرياض، وانتهاءً بهيئة التفاوض واللجنة الدستورية، مع التأكيد على اختلاف حجم وطبيعة كلّ منها والسياق الذي نشأت فيه.

من هنا تأتي أهمية إنشاء مفوضيّة وطنية للانتخابات من قبل المعارضة السورية، لأنها ستركّز على إصلاح عطب مؤسساتي جوهري، تمّ التغاضي عنه طويلاً منذ اندلاع الثورة السورية قبل عشرة أعوام. ستكون مهامّ هذه اللجنة كبيرة جداً نظراً لحالة الفراغ والتصحّر التي تحدثنا عنها. لن يكون عملها اعتيادياً، لأنها ستعمل ببساطة في بيئة وظروف غير اعتيادية. ستواجه هذه المفوضيّة واقعاً صعباً جداً يتمثّل في التغيير الديموغرافي الكبير واسع النطاق، وفي النزوح والتهجير القسري لما يقرب من نصف السكان، وفي وقائع الزواج والطلاق والولادات والوفيات غير المسجّلة، وفي فقدان الوثائق الثبوتية لعدد كبير من المهجرين والنازحين، إضافة لعدم استقرار الأمن حتى في المناطق الداخلية البعيدة عن خطوط التماس، وما تتطلّبه عمليات الإحصاء وتحضير سجلّات الناخبين من ضرورة التواصل مع المنظمات الأممية والجهات الحكومية الرسمية للدول التي يقيم فيها السوريون على كامل خريطة العالم. سيكون على هذه المفوضية نشر الوعي بأهميّة الانتخابات من خلال برامج تفاعلية مع جمهور السوريين، بمن فيهم أولئك المقيمون في أماكن سيطرة النظام وحلفائه، والمليشيات الإرهابية الانفصالية الخاضعة لسيطرة حزب العمال الكردستاني، وتنظيم القاعدة الإرهابي المسمى هيئة تحرير الشام. 

ورغم هذه الضرورة الملحّة لإنشاء جهاز فنّي يقوم بهذه المهام الجسام - خاصّة وأننا سنحتاج إلى كادر كبير مدرّب يُعدُّ بالآلاف، للإشراف على صناديق الاقتراع لاحقاً بعد إتمام عملية الانتقال السياسي - إلا أنّ البدء بذلك لم يكن بهذه السهولة على الإطلاق، بل جوبه بهجمة شرسة من أطراف عدّة لا مجال لذكرها الآن، لكنّ تحليل بعض أساليب هذه الرفض قد يكون مفيداً لفهم جوانب معيّنة من هذه الظاهرة.

لم يكن الهجوم على قرار الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بإنشاء المفوضية الوطنية للانتخابات خالياً من الوجاهة في بعض النقاط، ومنها عدم التحضير الجيّد له بالتشاور مع القوى الوطنية الفاعلة، وحتى ضمن مؤسسة الائتلاف ذاته، لكنّه لم يكن محُقاً في كثيرٍ منها أيضاً. 

لقد تمّ استخدام الكثير من المغالطات لتحقيق هذا الهدف، فتمّ ربط قرار إنشاء المفوضية بانتخابات الرئاسة التي سيجريها نظام الأسد في نيسان المقبل عام 2021، وتمّ اتهام الائتلاف عموماً بأنه يريد تبييض صفحة النظام من خلال مشاركته فيها، كما تمّ اتهام رئيس الائتلاف بأنه سينافس بشار الأسد، وهذا هو لبّ مغالطة "الشخصنة"، وتمّ التغاضي عن المواقف المعلنة السابقة وعن البيانات التوضيحية اللاحقة وهذه هي مغالطة "التحريف"، وتمّ تجييش العواطف والمشاعر الشعبية للضغط على قيادة الائتلاف من أجل التراجع، وهذا جوهر مغالطتي "التماس المشاعر والاحتكامُ إلى سُلطة"، وكل ذلك بدون أي أساس أو مبرر منطقي، وبإلتفاف واضح وفجّ عن تأكيدات الائتلاف وهيئة التفاوض السابقة واللاحقة، على تمسكهم بضرورة إنشاء هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات، والتنفيذ الكامل لمقررات بيان جنيف 1 والقرارين الدوليين 2118 و2254 وباقي قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أي البدء بالانتقال السياسي الكامل قبل الحديث عن أي انتخابات من أي نوعٍ كان. 

إنّ وجود مفوضية وطنية للانتخابات أمرٌ أكثر من ضروري، ليس فقط للتحضير لمتطلبات المرحلة الانتقالية وما بعدها من بناء سورية الجديدة، بل للمساعدة في إعادة بناء المؤسسات الوطنية المدنية والسياسية المحسوبة على المعارضة والثورة السورية. هنا يتوجّب علينا العمل من الصفر بل بالأحرى من تحت الصفر، فلا يمكن التغاضي أبداً عن حالة فقدان الثقة الناتجة عن فقدان الشرعية في كافة مؤسسات الثورة والمعارضة الرسمية، والشرعية لا تأتي إلا عبر التمثيل الصحيح، وهذا التمثيل الصحيح لا يأتي بدون انتخابات شفافة حرّة ونزيهة، وهذه الانتخابات لا تكون بدون بنية تحتية قوية وكوادر مؤهلة مدرّبة من جهة، وبدون وعي اجتماعي بضرورة هذا كله، وتعاون بين كافة المؤسسات والكيانات السياسية والمدنية من جهة ثانية، وهذه كلها من أولى مهام المفوضية الوطنية للانتخابات. وبعد انتهاء عملية الانتقال السياسي كما هو مضمون القرارات الدولية، ستنتقل مفوضية الانتخابات هذه لتندمج في بنية الدولة السورية، وقد تحلّ مكان الأجهزة الانتخابية التي أفرغها نظام الاستبداد من محتواها ومضامينها خلال السنوات الخمسين الماضية. المفوضيّة الوطنيّة للانتخابات ضرورة ثورية ووطنية سورية وليست ترفاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها