الخميس 2020/12/24

آخر تحديث: 11:10 (بيروت)

عن مسيحيي لبنان وإستشراق "الفيغارو"

الخميس 2020/12/24
عن مسيحيي لبنان وإستشراق "الفيغارو"
اضاءة شجرة الميلاد في الجميزة (غيتي)
increase حجم الخط decrease
 مشكورة فعلاً، صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية العريقة، على مبادرتها الى نشر ملف موسع في عددها الصادر الاربعاء، عن "مسيحيي الشرق" في مناسبة عيد الميلاد..لا يعيبه سوى تلك الخفة المريعة في تناوله السطحي وضع مسيحيي لبنان بالذات، الذي لا يمكن بأي حال من الاحوال أن يندرج في السياق المشرقي العام، أو أن يخضع لمعايير استشراقية بالية، ما زالت راسخة في ذهن كل كاتب غربي.

هو شأن الصحيفة، أن تختار مناسبة مجيدة، للاضاءة على مأساة المسيحيين المشرقيين، وتعرضهم للتهديدات الاسلامية، والعنف المتمادي، والافلاس المالي. وهي مخاطر جدية، لا نقاش في ذلك، وتسفر حتما عن تناقص أعدادهم في المشرق، وهجرتهم المتجددة نحو الغرب، ما ينذر بمستقبل مشرقي مظلم، في الأرض التي شهدت الميلاد وحفظت العهد ولا تزال.

تصدرت الملف افتتاحية كتبها مدير تحريرها المساعد إتيان دي مونتيتي، بعنوان"مسيحيو الشرق: من هنا ومن هناك"، وتقرير لمراسلها جورج مالبرونو، بعنوان "الميلاد المأساوي لمسيحيي الشرق"، وكلاهما يبث الخوف الكامن من أن يأتي يوم ينعدم فيه الوجود المسيحي في المشرق، ويربط بطريقة مبتسرة، خالية من أي معنى، بين مستقبل مسيحيي لبنان وسوريا والعراق وفلسطين ومصر..ليصل الى الدعوة المتكررة لحماية ذلك النوع من المشرقيين العرب، ومساعدتهم على الصمود والبقاء في أرض الاجداد.

أما عن المقارنة بين المخاطر التي يتعرض لها المسيحيون في مختلف دول المشرق فإنها شبه معدومة، حسب "الفيغارو"، لا بل منسوبة أساساً الى خطر إسلامي إفتراضي، فتك بالمسلمين أكثر بكثير مما فتك بالمسيحيين، ولا يزال. وهو يصدر عن حالة توحش مرعبة، لكنها معزولة ومحاصرة في بيئات مغلقة، يمكن ان تزول بقيام دول طبيعية في مناطق إنتشارها أو تسللها، لاسيما في سوريا والعراق. لكن هذه الحالة ليست مصدر التهديد الاكبر الذي يواجهه مثلا مسيحيو فلسطين الخاضعين للاحتلال الاسرائيلي وممارساته العنصرية والفاشية بحق المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين على حد سواء. كما أن هذه الحالة ليست مصدر الخطر الأهم على أقباط مصر الذين يتعرضون لشكل من أشكال الاضطهاد الاجتماعي المتأصل في تكوين المسلمين المصريين على إختلاف نزعاتهم، وتدينهم! وهو ما يعزى في الأصل الى تشكل دولتهم ومؤسساتها وعسكرة ثقافتهم السياسية والدينية.

أما في لبنان، فإن الخطر الاسلامي الذي تضعه "الفيغارو" في رأس قائمة المخاطر، فإنه يكاد يكون بلا أثر يذكر في اليوميات اللبنانية. بل على العكس من ذلك، فإن المسيحيين اللبنانيين ينسجون هذه الايام تحالفاً مقدساً مع إسلاميين شيعة، سبق أن وضعتهم فرنسا نفسها كما بقية دول الغرب على لوائح الارهاب، لا لأنهم قاوموا الاحتلال الاسرائيلي، بل لأنهم قاتلوا في معارك خارج حدود لبنان، وفرضوا هيمنة مرفوضة على الدولة اللبنانية، وقادوا أكثر من مسعى لتعطيل عمل مؤسساتها..

ليس مسيحيو لبنان في نعيمٍ، لكن موجة هجرتهم الحالية نحو فرنسا خاصة، لم تكن نتيجة عمليات تنظيم "داعش" الذي لم يصل يوماً الى العمق اللبناني، ولا حتى السوري، لحسن الحظ. وهي موجة، مدفوعة بعوامل إقتصادية أولا ثم سياسية، وهي بالتأكيد، لا تقارن بالهجرات التي ينفذها المسلمون اللبنانيون والسوريون، وتسقط منهم أعداداً قياسية من الضحايا. ومياه البحر الابيض المتوسط خير شاهدٍ ودليل.

تقدم "الفيغارو" خدمة جليلة للبنان وتسهم في الدفاع عن مستقبله، عندما  تسلط الضؤ على تلك الهجرة المسيحية اللبنانية المتنامية حاليا. لكنها تظل بلا شك خدمة ناقصة، ما لم تكشف عن ذلك الخلل العميق في ثقافة أو على الاقل في وعي غالبية المسيحيين اللبنانيين، الذين لم تضعهم الاقدار وحدها تحت مقصلة العقوبات والادانات الغربية، بل حماقات قياداتهم السياسية ونزاعاتها الداخلية التي بلغ بها الأمر حد الإشتباك مع العالم كله، والاستعداد للقيام بعمليات إستشهادية على الطريقة الشيعية..من أجل التوريث!

كان يمكن ل"الفيغارو" أن تتعامل مع لبنان كحالة خاصة، فريدة، تستولد مخاطرها من ذاتها. علّها تدفع غالبية مسيحييه إلى إستعادة رشدهم، وإسترداد مكانتهم اللبنانية والمشرقية المتميزة، ما يؤدي الى إنبعاث ميلادهم من جديد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها