الأربعاء 2020/12/23

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

كريسماس السلالة الجديدة

الأربعاء 2020/12/23
increase حجم الخط decrease
صباح الإثنين، أعلنت تايوان، اكتشاف إصابة كورونا الأولى منذ نيسان/أبريل الماضي. أكثر من ثمانية أشهر بلا أصابة محلية واحدة. خطة "الصفر كورونا" ليست مستحيلة، وليست صعبة أيضاً. في لندن، يوم عادي آخر، لم يتغير الكثير، بضع خطط صغيرة لاحتفالات عيد الميلاد تم إلغاؤها، ولم تعد مسموحة الزيارات المنزلية في معظم الجنوب الشرقي لإنكلترا. صديقان كانا قد سافرا قبلها بليلة واحدة، وتركا معي مفتاح شقتهما للاعتناء بالنباتات في غيابهما، وربما سيعلقان في الخارج أطول مما خططا، فلائحة طويلة من الدول أغلقت مطاراتها في وجه الرحلات البريطانية. بروكسل علّقت قطار "يوروستار" عبر القناة، وحتى الحدود مع إسكتلندا موصدة.

لسبب غير مفهوم، أكثر ما أشعرني بثقل الأمر، كان الإعلان عن توقف خدمة البريد مع الاتحاد الأوروبي، ودول أخرى منها كندا وتركيا. العزلة بدت للحظة مستحكمة، فردية وجماعية أيضاً، حتى الرسائل ستنقطع. فكرة طريفة في الزمن الرقمي، لكن جهامة عابرة برقت من ظلالها الرمزية. في خلال 48 ساعة فقط، أضحت بريطانيا دولة منبوذة، جغرافية الجزيرة أضحت واقعاً أنطولوجياً. مفاوضات تدور مع الجانب الفرنسي لإعادة فتح الحدود البرية والبحرية، طوابير طويلة من سيارات النقل تمتد على الجانبين، في الانتظار. في وسط هذا كله، جونسون يؤكد "بريكزت" في موعده، ولو من دون اتفاق. لم يبق سوى أسبوع وبضعة أيام، دفع وضع الكارثة إلى الحافة، تكتيك تفاوضي ربما، أو واحدة من خطط لعبة "الروغبي" الأكثر صدامية، لكنها يمكن أن تنتهي بكارثة حقيقية.

منذ أيلول/سبتمبر، عرفت الهيئات الصحية في بريطانيا بالسلالة الجديدة، بين طفرات أخرى أقل أهمية. وشهر بعد آخر، تراكمت الدلائل على سرعة انتشارها، في نوفمبر كان أكثر من ثلثي الإصابات عائداً إليها. إلحاح الاختصاصيين على ضرورة الإغلاق العام، ولو لفترة قصيرة، بغرض"كسر الدائرة"، واجهته ضغوط من قطاع الأعمال والجناح الأكثر يمينية داخل حزب المحافظين. السعي إلى حماية الأنشطة الاقتصادية لم يكن غير أخلاقي فحسب، بل وفي غاية الاستهتار أيضاً. لا أحد يعرف مثلاً، كيف توصلت الحكومة لبرنامج الدعم الكارثي تحت عنوان "كُل في الخارج، لتُساعد". لمدة شهر كامل، دفعت الدولة خمسين في المئة من قيمة الوجبات لتشجيع المواطنين على العودة إلى تناول الطعام خارج بيوتهم وإنعاش الاقتصاد، لاحقاً تبين أن ثلث مراكز الدوائر الكبرى للعدوى في المطاعم المزدحمة.

لكن تلك الحماقة شبه المتعمدة، لا تأتي وحدها أبداً. التضحية ببعض الأرواح لقاء المصلحة العامة (أي رأس المال في الأغلب)، يستدعي خطاباً وطنياً في العادة. قبل أسبوعين، ومع الإعلان عن بدأ التطعيم بلقاح فايزر، ظهر وزير الصحة البريطاني، مات هانكوك، في شاشة التلفزيون، متظاهراً بمسح دموعه من فرط التأثر، ثم أفلتت منه ضحكة غير مقصودة، وهو يقول بتأثر حماسي "أنا فخور بكوني بريطاني". نغمة التباهي الوطني باعتماد اللقاح الأميركي-الألماني قبل الجميع، تصدرت خطابات المسؤولين، ممزوجة بادعاءات غير صحيحة، مثل أن لندن نجحت في أن تكون الأولى بفضل "بريكزت"، وبفضل تحررها من قيود الاتحاد الأوروبي وبيروقراطيته البطيئة. والشوفينية الفارغة كللتها إشارات درامية إلى اسم الشخص الثاني الذي نال اللقاح، الرجل التسعيني "وليام شكسبير". لا يمكن للأمر أن يكون بريطانياً أكثر من ذلك، ولا أكثر مدعاة للفخر المسرحي.

الكريسماس الذي حاولت حكومة جونسون إنقاذه، تم إلغاؤه في اللحظة الأخيرة، والخسائر مضاعفة، في الأرواح واقتصادياً أيضاً. خطة الحفاظ على مبيعات أعياد الميلاد، ودفع دورة السوق الاستهلاكي في مطلع العام، كانت ستعني كارثة صحية بأبعاد لا يمكن توقعها. فمعدلات الانتشار المتسارعة للسلالة الجديدة أضحت مؤكدة، وفي ارتفاع. تعيد الحكومة البريطانية أخطاءها، مرة بعد مرة، كما هي، منذ ظهور الوباء، من أول "مناعة القطيع" إلى تأخير في رد الفعل، إلى النقطة التي لا يمكن الرجوع عنها. حسابات الربح والخسارة على محوري الصحة العامة ورأس المال، تنتهي بخسارة الإثنين معاً. التبعات ذات الأبعاد المحلية تأخذ بُعداً عالمياً هذه المرة، السلالة الجديدة ليست أكثر فتكاً من سابقاتها، وإن كانت نسب العدوى بها أعلى. اللقاحات المتاحة مازالت قادرة على التصدي لها، على الأرجح. لكن طفرة أخرى، أو طفرات عديدة متتابعة، يمكنها أن تحدث على وقع شوفينية عالية الصوت وحماقة مدفوعة بحسابات السوق قصيرة النظرة، ربما لن تكون كذلك.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها