وهذه المواضيع وضعت "المبادرة" في خصومة مع السلطة، وكذا في مواجهة المعارضة الإسلامية وفئات واسعة من المجتمع في أحيان كثيرة. وتطلّب ذلك شجاعة استثنائية وجهداً مهنياً مضنياً، في ساحات المحاكم ومجال الدعم المعنوي، وكذا حقول الرصد والبحث والتوثيق وإصدار التوصيات. واعترافاً بدور "المبادرة"، بعد ثورة يناير، دُعيَ مؤسسها ومديرها السابق، حسام بهجت، لعضوية المجلس القومي لحقوق الإنسان في العام 2013، وهو الموقع الذي رفضه حينها. ولم يمر عامين من ذلك التاريخ، حتى أثار إلقاء القبض عليه، موجة إدانة دولية واسعة كان من ضمنها صدور بيان من الأمم المتحدة. ويبدو أن النظام قد فوجئ حينها بردّ الفعل الدولي، وتم الإفراج عن بهجت بعد اعتقاله بأيام.
وبشكل مماثل ومتوقع، استدعى القبض على مسؤولي المبادرة الثلاثة تباعاً، الأسبوع الماضي، حملة إدانة دولية واسعة واستثنائية، شملت بيانات أصدرتها حكومات وبرلمانات أوروبية، ومنظمات أهلية وتحالفات حقوقية إقليمية ودولية، وهيئات أكاديمية من حول العالم، من الأرجنتين والولايات المتحدة ونيجيريا، مروراً بالبرلمان الأوروبي ووزارات خارجية دوله، وصولاً إلى جنوب أفريقيا وكولومبيا وبيان من الأمم المتحدة.
لكن النظام المصري بدا متحسباً لردود الأفعال هذه المرة، بل على الأرجح هذا ما كان ينتظره تحديداً أو استدعاه بشكل متعمّد. يوظف إعلام النظام الإدانات لصالحه، لتأكيد رواياته عن منظمات المجتمع المدني. فكلما تعالت البيانات الصادرة عن عواصم غربية، كلما ثبتت تهمة العمالة للخارج التي يروجها، بل والتي تماهت معها ضمناً مؤسسة إعلامية مثل "بي بي سي- عربي"، فأصرّ أحد مذيعها، قبل يومين، على تكرر سؤاله عن مصادر تمويل "المبادرة" في حوار مع أحد مسؤوليها. يستنفذ النظام إمكانات الإدانة الخارجية مسبقاً، متحسباً لمسألة سجله الحقوقي، ويصورها في الداخل كتعدٍّ على السيادة الوطنية وتدخّل في الشؤون الداخلية.
مثُل المدير التنفيذي "للمبادرة"، جاسر عبد الرازق، أمام النيابة العامة، قبل يومين، ليشكو من حبسه انفرادياً في زنزانة بسرير حديدي وبملابس صيفية لا تقيه البرد. التنكيل مقصود، وعلانيته أيضاً. النظام الذي تسيّره قناعة بأن ما أسقط نظام مبارك هو تهاونه ولا شيء آخر، غير مستعد لإظهار علامة على اللين. ويتوجس من أن أي خطوة توحى بالتراجع أو الانصياع للضغوط، قد تعني إفلات الأمور من يده بلا رجعة.
الحملة على "المبادرة"، تلاها قرار صادم بوضع أسماء سجناء آخرين في لائحة الإرهاب، بينهم الناشط علاء عبد الفتاح، والمحامي الحقوقي محمد الباقر، والمرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح. ويبادر النظام، بحملته الاستباقية، إلى قطع الطريق على أي آمال بخصوص ولاية بايدن المرتقبة، والأهم القضاء على أي تعويل داخلي على ضغوط الخارج، وربما إضافة المزيد من أوراق اللعب في يده للمساومة عليها لاحقاً. ويوحي هذا كله بأسابيع مقبلة صعبة، قبيل الذكرى السنوية العاشرة لثورة يناير.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها