الإثنين 2020/10/26

آخر تحديث: 06:23 (بيروت)

السودان وسؤال التطبيع

الإثنين 2020/10/26
السودان وسؤال التطبيع
increase حجم الخط decrease
لم يأت قرار التطبيع في السودان، واستقباله شعبياً (من دون رد فعل عنيف)، من فراغ. بالتأكيد، فرضت الإدارة الأميركية خياراً لا ثاني أو ثالث له، وهو رفع هذا البلد عن قائمة الدول الراعية للإرهاب مقابل تعويضات مالية لضحايا اعتداءات إرهابية والتطبيع مع إسرائيل. أو، في المقابل، بإمكان السودان أن يبقى ضمن مجموعة الدول المارقة، وأن يتفرج على تداعي الاقتصاد ومعه المرحلة الانتقالية برمتها.

لم تترك الإدارة الأميركية خياراً لبلد تُنازع فيه العملية الانتقالية، وسط تهديد دائم بعودة النظام السابق وأشباحه في حال الفشل في مهمة انتشال الاقتصاد ووضع البلاد على سكة التنمية بعد طول انتظار.

قرر السودان القبول بهذا الشرط لقاء العودة الى النظام المالي العالمي وفتح الأبواب أمام استثمارات خارجية، بغض النظر عن حجمها، وفي ظل غياب شروط فعلية بالمساعدة. لكن هذا القرار ليس بالسهل، أي أن الشرط الأميركي القاسي وحده غير كاف لتفسيره، بل هناك عوامل داخلية لا بد من الإشارة اليها.

ذاك أن علاقة السودان مع العالم العربي والانضواء فيه وحمل راية القضية الفلسطينية، لم تنطو على تفاعل إيجابي لأسباب داخلية وأخرى تتعلق بالإقليم أيضاً. 

أولاً، كانت العروبة في السودان عنواناً لعلاقة مُختلة بين المركز والهامش. وهذه العلاقة المختلة لم تخلُ من عنف واستغلال وتهميش، وأوجدت انقساماً عرقياً تجلى في الصراعات والحروب في المحافظات ومنها دارفور وجنوب كردفان. ومن آثار هذه السياسة طمس الهويات المحلية الغنية في الداخل السوداني. هذه الخصوصية اللغوية والثقافية استُهدفت بشكل منهجي، ووُجهت غالباً بالعنصرية والإهمال. في مقابل عروبة النظام المخلوع، وهي سمة للاستعمار في الداخل، نشأ تعاطف محلي مع رموز وقضايا التحرر الافريقية.

خلع نظام عمر البشير، كان اقتلاعاً لهذه المنظومة. والمصالحات واتفاقات السلام التي عملت الحكومة السودانية على ابرامها في المحافظات، جاءت كخطوة أولية لمحو آثار هذا الواقع، والاعتراف بالآخر وبمطالبه وحقه في تمثيل عادل ضمن الدولة الواحدة.

كانت فلسطين جزءاً من عدة الشغل للنظام المخلوع، كأداة للتخوين والاستغلال لمآرب داخلية، تماماً كما كانت (وربما ما زالت) لدى نظام الأسد في سوريا. لهذا فإن تأييد بعض السودانيين التطبيع لم يكن موجهاً ضد الشعب الفلسطيني القابع تحت الاحتلال، بل نبع من ارهاق يشعر به قسم من السودانيين، نتيجة الاستغلال الوظيفي غير العادل لهذه القضية العادلة.

ثانياً، يعم شعور لدى قسم ليس بالهين من السودانيين، بالتهميش في المنظومة العربية. ليس للسودان موقع متقدم، بل هناك شكوى دائمة من العنصرية والنظرة الدونية. وفقاً للسودانيين، تحتل مصر أراضي سودانية (حلايب وشلاتين) وتمنع أي حوار في القضية، رغم العلاقات "الأخوية" بين الجانبين. لم يشهد العالم العربي أي مراجعة حيال هذه العلاقة مع السودان، ناهيك عن معالجة التهميش والعنصرية بحق الأقليات الافريقية في بلدان عديدة من العراق الى تونس. والواقع أن التضامن مع قضايا السودان وأزماته، لم يكن يوماً بالمستوى المطلوب، وبما يتناسب مع بلد يعاني من أزمات صحية وغذائية ونقص حاد في المواد الأولية ومنه الوقود، وهي مفارقة لافتة في ظل الإمكانات العربية في هذا المجال. هذه العلاقة المختلة بالإقليم مسؤولة عن هذا التبدل في المزاج السوداني.

ثالثاً، شهد هذا البلد مخاضاً سياسياً مؤلماً وكان مختبراً لتجارب هيمن عليها الحكم الإسلامي خلال العقود الماضية. لم تحسب خيارات النظام المخلوع حساباً بالحد الأدنى لقضايا التنمية المحلية، بل صب جُلّ تركيزه على البقاء في الحكم، والتماهي مع قضايا الإقليم بما يخدم المصالح الضيقة، ناهيك عن تعزيز الصراعات المحلية. 

مصالح السودانيين احتلت مرتبة منخفضة جداً في سلم الأولويات خلال العقود الماضية. لهذا السبب، يرى بعض السودانيين قرار التطبيع، علامة فارقة، ذلك أن حساباته سودانية صرف، ولا علاقة لها بحسابات إسلامية أو عربية عابرة للحدود. صحيح أن الشعب السوداني يبقى متعاطفاً مع القضية الفلسطينية، ومن المستبعد أن يتغير هذا الموقف قريباً، ولا بد أن ينعكس على مسار التطبيع على الأرض. لكن القرار اتُخذ بهذا الشكل المعاكس للشعور العام، لانعدام الأفق والبدائل، وأيضاً لأن النافذة الزمنية للنجاح باتت أضيق.

بالنسبة لهؤلاء، لم تكن للتطبيع علاقة بحسابات إسلامية أو عربية عابرة للحدود، بل يخدم القرار جهود السودان للانتقال من حالة الحصار الدولي الذي فرضته خيارات النظام المخلوع. بغض النظر عن تحقيق النتائج المرجوة من عدمه، اتخاذ القرار وفقاً لهذه الحسابات، يؤشر الى طي صفحة سابقة، وفتح أخرى جديدة عنوانها الأبرز هو مصلحة السودانيين ومستقبلهم، وربما طلاق مع المنطقة ومتاعبها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها