الأربعاء 2020/10/14

آخر تحديث: 07:17 (بيروت)

أطفال الموت..بما يرضي الدولة

الأربعاء 2020/10/14
أطفال الموت..بما يرضي الدولة
من فيديو تمثيلية الذبح على طريقة "داعش" في إحدى الكنائس المصرية
increase حجم الخط decrease
طابور من الأطفال دون السابعة من العمر، أيديهم خلف ظهورهم كالمقيدين، وملابسهم البرتقالية موحدة، يتقدمون بانصياع وخفة بريئة في ممر يتوسط قاعة الكنيسة، وفي الخلفية تعلو تراتيل طفولية تفتقد للانتظام. يركع الواحد منهم بعد الآخر على الأرضية المغطاة بالسجاد، فيما يتجول بينهم أطفال أكبر سناً يرتدون السواد، ووجوههم مغطاة بأقنعة لها اللون نفسه. يتقدم أكبرهم بين الأطفال الراكعين، ويمرر سكينه في الهواء بالقرب من رقبة أحدهم، فيسقط متظاهراً بالموت، تمر الكاميرا على الأجساد الصغيرة الهشة المطروحة على الأرض بلا حركة، لتصنع سلسلة من الفزع للتمثلات والرموز والتواريخ المقبضة. الفيديو الذي يسجل بروفة مسرحية تعيد تجسيد مذبحة الأقباط في ليبيا العام 2015 ينتهي بالمسيح على رأس فرقة من الملائكة وهو يوزع الأكاليل على الأطفال الشهداء في ملكوت السماوات.

التسجيل يعود إلى أكثر من عام، ويرجح أنه صُوّر في إحدى كنائس إيبارشية الإسماعيلية، ولا يخرج مضمونه عن تراث الكنيسة القبطية ولا عن خطابها ووسائلها التربوية المعاصرة. المذبحة الحاضرة بقوة في المخيلة القبطية، ليست حدثاً طارئاً، بل أساس الكنيسة ومصيرها المتصل، الروزنامة القبطية تحمل اسم تقويم الشهداء، والجميع ضحايا في لحظة انتظار دائم وطويل. يحفظ الأطفال كما البالغين قصص الشهداء، بتفاصيل مغرقة في المازوشية، عن التعذيب وإعادة التعذيب حتى الموت، وتتكرر في ترانيم مدارس الأحد لفظة الدم أكثر من أي كلمة أخرى. الخيال الهوليوودي لمجرمي "الدولة الإسلامية" وضحاياهم ببذلات الإعدام الأميركية ذات اللون البرتقالي المميز، يبدو مرآة معكوسة لتراث قبطي أقدم وأطول عمراً، كنبوءة متحققة، تشهد للإيمان وتثبته.

ظهور التسجيل وتداوله بكثافة قبل أيام، في ذكرى "مذبحة ماسبيرو"، على الأغلب مجرد صدفة، لكن المقارنة بين المذبحتين ليست كذلك. الانتقائية الكنسية في تخليد واحدة على حساب الأخرى خضعت لحسابات السياسة الدقيقة. "ماسبيرو" تشير بإصبع الاتهام إلى القوات المسلحة، تضع الأقباط في خصومة مباشرة مع النظام ومع الدولة، خصومة لا يمكن التعايش معها أو احتمالها. بينما المذبحة الليبية وقعت خارج الحدود، وهي أيضاً لحظة المصالحة، التعويض عن المذبحة الأولى، لحظة الاحتماء خلف الجيش، لا جيش المجنزرات التي دهست الأقباط على كورنيش النيل، بل الجيش الذي شنت طائراته غارات انتقامية على أهداف داخل الأراضي الليبية. المذبحتان، جنباً إلى جنب، تثيران معضلة: فماذا تفعل حين يكون حاميك هو أيضاً قاتلك؟

سارع المجلس القومي للطفولة والأمومة إلى التدخل، وتقدم ببلاغ إلى النيابة العامة ضد القائمين على العرض المسرحي وتسجيله، لما فيه من إيذاء نفسي للأطفال المشاركين، ومن جانبها أعلنت الكنيسة عن فتح تحقيق داخلي أيضاً. القضية تأتي في سياق يتجاوز الأقباط وكنائسهم. ففي منتصف الشهر الماضي، تقدم المجلس نفسه ببلاغ ضد "أحمد وزينب"، الزوجين الشهيرين في "يوتيوب"، بسبب ترويعهما لطفلتهما، وتصوير مشاهد فزعها وبث التسجيل لمتابعيهما في الإنترنت. أثار قرار النيابة بحبس الزوجين على ذمة التحقيق، الكثير من اللغط والتساؤل حول مصير الطفلة وجدوى حرمانها من كلا والديها. وتزامنت القضية مع الحملة الأمنية الشرسة ضد موقع "تيك توك"، والتي استهدفت أيضاً قاصرات وبالغات. التقاطعات بين القضايا التي استلزمت تدخل مجلس القومي للطفولة، وتلك التي استدعت تدخل مجلس المرأة، كثيرة، أما تحركات الدولة فبدت معنية بفرض هيمنتها على الفضاء الإلكتروني، أكثر منها مهتمة بسلامة النساء أو القاصرين.

يوم الخميس الماضي، وصلت قضية أخرى تتعلق بالعنف ضد الأطفال، إلى نهايتها. ظهرت "فتاة الإسكندرية" المتغيبة، نشرت الصحف صورة لها بجسد متخشب يطفح بالانكسار والنفور فيما يقبّلها والداها. كانت صورة العودة الإجبارية، المليئة بالألم، كافية لفهم ما حدث. هربت الفتاة إلى القاهرة بعد تعرضها للعنف المنزلي على يد والدها وبتحريض من الأم. لكن النيابة هنا كانت معنية بالتصدي لإشاعات خطف القاصرات، أكثر من سلامة الفتاة التي أرغمت على العودة من دون اتخاذ أي إجراء ضد والديها. الفتاة السكندرية ليست طفلة تماماً، بل على أعتاب المراهقة. في عين الدولة، مهمة ضبطها كأنثى تتغلب على مهمة حمايتها كقاصر من العنف الأسري.

الجدل الحالي حول العنف ضد الأطفال يبدو كحَملة مصغّرة من "أنا أيضاً"، التداخلات بين قضايا الطفولة وقضايا النساء أكبر من أن تمكننا من الفصل بينها بسهولة. وكما في "أنا أيضاً" النسوية، تظل المعضلة الأساسية كيف يمكن ائتمان الدولة على الضحايا من القاصرين والقاصرات، الدولة التي تخرق مؤسساتها القانون بشكل دوري، وترتكب الخطف والإخفاء القسري والتعذيب بشكل روتيني.. الدولة التي، قبل أسابيع قليلة، ألقت القبض على مئات القاصرين لإخماد احتجاجات ضدها. فحين تكون الدولة نفسها غير مؤتمنة، كيف يمكن إنقاذ أجيال من الأطفال يبدون جميعاً كما لو أنهم يرتدون زي الموت البرتقالي، كضحايا في الانتظار؟! 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها