الثلاثاء 2020/01/28

آخر تحديث: 09:10 (بيروت)

بروتستانتية تحكم العالم

الثلاثاء 2020/01/28
بروتستانتية تحكم العالم
صلاة من أجل ترامب قبيل إلقائه خطاباً في مناصريه خلال جولته الانتخابية في ميامي (غيتي)
increase حجم الخط decrease
يمكن ببساطة أن نلوم ماكس فيبر، على كل الأساطير النظرية حول البروتسانتية، فأخلاق العمل والتقشف البروتسانتيَين، والعلاقة الفردية والمباشرة مع الله التي أتاحها إصلاح لوثر، وكذا مسؤولية المؤمن عن فهم النص المقدس وتأويله، جميعها كانت أسساً لبزوغ الرأسمالية وتطورها. الشك النقدي وحكم العقل والإيديولوجيا الفردية، كل هذا مرتبط بالإصلاح المسيحي الذي بدأ في ألمانيا، وحمله المضطهدون الأوائل من أوروبا ضيقة الأفق والمتعصبة إلى شواطئ أميركا الشمالية، وهناك أسسوا يوتوبياتهم الحقيقية، مسيحية جداً ورأسمالية جداً أيضاً.

لكن البروتسانتية التي وصلت إلى مشرقنا العربي، نهاية القرن التاسع عشر، مع المبشرين المشيخيين بمدارسهم ومشافيهم ومجلاتهم العلمية، تغيرت كثيراً في العالم كله، ولا تشبه الصورة الوردية التي رسمها لها فيبر، سوى في رأسماليتها، في أكثر صورها تدهوراً. المَشاهد المكررة، لقساوسة كارزميين يتحلقون حول ترامب في البيت الأبيض، وعيونهم مغمضة وأياديهم مرفوعة إلى السماء، لم تعد حدثاً مستهجناً. لا هي، ولا التصريحات التي يطلقونها بعدها في وسائل الإعلام عن الإرادة الإلهية المتجسدة في ترامب. يبارك هؤلاء ضم القدس، لاستعجال المجيء الثاني للمسيح. البعض الآخر يتوقع معركة آراماغيدون الكبرى، ويصلّي من أجلها. وعد الرئيس الأميركي، قبل أسبوع، بأنه سيعمل على عودة الصلاة في المدارس الحكومية، ليكسب أصوات "الإفانجيلكيين" الذين كان قد ربح بأصواتهم ولايته الحالية، إذ نال حوالى 80% من أصواتهم، واتحادات كنائسهم تدعو لأيام للصلاة من أجل فوزه بدورة ثانية.

لكن تلك النسخة من البروتستانتية المغرقة في التفسيرات الرؤيوية وفك الطلاسم والنبؤات عن نهاية العالم وظهور الوحش عدو المسيح، وغيرها، لا تحكم البيت الأبيض وحده، بل زحفت بتأنٍّ حول العالم، حتى أضحت واحدة من أكثر الإيديولوجيات تأثيراً اليوم، وخصوصاً في دول العالم الثالث وشرق أوروبا. فإنجيل الرخاء، النسخة البروتستانتية الأميركية جداً، التي تخلت عن تقشفها التاريخي، جمعت النجاح المادي والروحي، والتباهي بالثروة كعلامة على النعمة الإلهية، مع إيمان غَيبي بالمعجزات المدهشة، الطيران مع الملائكة والمال الذي يسقط من السماء وإحياء الموتى وقصور بحمّامات سباحة في فلوريدا وقسيسات شقراوات جذابات وغنيات جداً. أحلام بالثروة على الأرض، ووعود بمعجزات للشفاء الإلهي من دون حاجة إلى منظومة صحية أو غيرها، وهذا كله مع ضمان الحياة الأبدية في النعيم. خلال العقود القليلة الماضية، أضحت تلك التوليفة من الغيبية والحلم بالرخاء، بدعم من ماكينة إعلامية ضخمة وتمويلات هائلة من كنائس الولايات المتحدة، تحظى بقبول واسع في المجتمعات الأكثر فقراً، جنباً إلى جنب مع طبقات وسطى مازالت في طور التشكل. من كوريا الجنوبية التي كانت تتباهى عاصمتها سيول حتى وقت قريب بأكبر كنيسة في العالم (تتبع الإيمان الكاريزمي بنسخته الأميركية)، إلى الكونغو التي يدعي واعظ تلفزيوني ألماني بإنه قام بتحويل الغالبية الساحقة من سكانها إلى البروتستانتية في أسبوع واحد أو اثنين، لا تصمد شكوك حول حقيقة أن المسيحية الإيفانجيلكية هي العقيدة الأكثر نمواً في القرن الحادي والعشرين.

الأثر الأكبر لهذا التمدد، يبدو واضحاً في أميركا اللاتينية، القارة الكاثوليكية جداً في الماضي، واليسارية جداً في عدائها للأميركيين، والتي تخلت عن لاهوت تحريرها لصالح "الكاريزمية". في البرازيل، نما أتباعها في خال عقدين، من مجرد طائفية هامشية إلى لوبي ضخم وقف الكثير من كنائسه وراء فوز اليميني بولسونارو. في بوليفيا يقوم أحد أعضاء الحكومة اليمينية الجديدة، التي خلعت موراليس، بالتلويح بالإنجيل أمام الشاشات، واعداً بعودة المسيح إلى القصر الرئاسي، وليس من المفاجيء أن نعرف لاحقاً إنه من أتباع الحركة "الكاريزماتية" وواحد من قياداتها. وقبل عامين فقط من خلعه، أصدرت حكومة موراليس قانوناً يجرّم التبشير بوجه عام، وكان مفهوماً أن الغرض هو محاصرة الحركة الكاريزماتية، لكن الوقت بدا متأخراً جداً، والطريقة هى الأكثر قمعية بالتأكيد.

اليوم، تبدو الرأسمالية عاجزة عن تقديم إيديولوجيا علمانية مُقنِعة لأحد، خصوصاً الفقراء. لكنها تعود إلى حليفتها القديمة، حركة الإصلاح التى نسجت حولها الأساطير الفيبرية، وتقدم استهلاكية رثة تشعلها المعجزات الغيبية على المستوى الفردي، مع بروباغندا تلفزيونية براقة، وسياسة دولية تقودها الرؤى والأحلام والتفسيرات الحَرفية للنبؤات الإنجيلية. وبالطبع لا أحد أنسب من ترامب ليكون تجسيداً للإرادة الإلهية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها