الثلاثاء 2019/10/01

آخر تحديث: 07:50 (بيروت)

محمد علاء الدين: أسبوع من الاختفاء

الثلاثاء 2019/10/01
محمد علاء الدين: أسبوع من الاختفاء
increase حجم الخط decrease
لا أكتب عن محمد علاء الدين، لأنه روائي، بل أكتب عنه لأنني أعرفه. في روايات أميركا اللاتينية، قرأنا عن الاختفاءات القسرية، ألوف من البشر تبخروا في الهواء، هكذا بلا أثر. قرأنا كثيراً عن هذا كله حتى الملل، وفي البيوت سمعنا قصصاً عن الناس الذين ذهبوا وراء الشمس، ولم نظن أن هذا سيحدث لنا أو لأحبائنا يوماً. 


في الشتاء الماضي، في بوينس آيرس، رأيت الجدّات مازلن يدُرن في الميدان الذي سُمّي نسبةً إليهن، فأكثر من ثلاثة عقود ونيف، مضت، ولا أخبار بعد. يذهبن هناك، يهتفن "لن ننسى، لن نغفر"، وبعدها يجلسن في الظل في انتظار الغائبين. الرؤية غير السمع، رأيتهن وبكيت. كانت ومضة الأمل الكاذب الخافتة، في عيونهن، مؤلمة أكثر من أي شيء آخر. وكلما مررت بالميدان بعدها، شعرت بحزن يوهن الجسد، فجلست إلى جانبهن لأستريح.

وعلى أطراف المدينة، في المدرسة البحرية، حيث كان المخطوفون يُفرزون، رأيت النصب الصغير، "رسالة مفتوحة من كاتب إلى الجونتا العسكرية". كنت فخوراً بنفسي بعض الشيء، فالجهد القليل الذي وضعته في تعلم الإسبانية مكّنني من فهم العنوان على الأقل. وجه رودولفو والش، الوديع، بعينيه المليئتين بالشقاوة خلف نظارته، كان منقوشاً في النصب، وتحته تاريخ نشره الخطاب الشهير وتاريخ اختفائه، والفارق يوم واحد.

في مدن الأرجنتين الشمالية، قرطبة وتوكومان وخوخوي، كانت الصور منتصبة في الساحات العامة على ألواح كبيرة، وتحت كل صورة تاريخ الاختفاء. شابات جميلات منحهن الأبيض والأسود ألقاً حزيناً. شبان بنظرات جادة، وقمصان لها ياقات عريضة على موضة السبعينات، أزواج أحبة متأبطين بابتسامات واسعة، عائلات بأكملها في صور عائلية دافئة، جميعهم، حتى الأطفال، اختفوا. أمضيت في البلد شهرين ونصف الشهر، البلد الذي تحولت مدنه إلى متاحف للذاكرة والأمل الممزوج بمرارة الإنكار. وهناك، خطر لي أن أكتب لمحمد علاء الدين أكثر من مرة، ولم أفعل لسبب أو لآخر.

كان هو أيضاً يحب السفر، والكتابة عنه، وهكذا تعارفنا قبل سبعة أعوام. كنت قد قرأت له بضع مقالات عن زيارته إلى شمال إنكلترا، ومدنه الصناعية المتداعية، وكانت نصوصاً بديعة وثاقبة على خلفية من معرفة بالبلد وتاريخه الاجتماعي، وقلت لنفسي: هذا أدب رحلات أحب أن أكتب مثله. وتعارفنا بعدها عبر الإنترنت، وتكلمنا عن السفر وأشياء أخرى. اليوم، يمر أسبوع على اختفائه، خرج من بيته وتبخر بعدها. وليس هو وحده من اختفى في الهجمة الأمنية الأخيرة، ولا هي المرة الأولى التي نسمع فيها أخبار الاختفاء القسري. قرأنا تقارير عن مئات اختفوا، وظهروا بعد أيام أو شهور، في المحاكم، وأحياناً كجثث يعرضها التلفزيون، بعد عملية مظفرة للشرطة في "حربها على الإرهاب" (أحاول أن اطرد الصورة الأخيرة من ذهني). كنا نسمع هذه الأخبار، ونغضب قليلاً، ثم ننساها. لكن محمد هو أول شخص أعرفه، يختفي. يمكن للإخفاء القسري أن يكون أرقاماً أو إحصائية في تقرير، ويمكن أيضاً أن يكون شخصاً تعرفه، والفرق مفزع.

في لقائنا في القاهرة، رمقني بنظرة من أسفل إلى أعلى، وقال: آه تبدو في الحقيقة كما تبدو في الصور، وضحكتُ. كانت تلك النوعية من المفاجآت واردة في العلاقات التي تبدأ في الأنترنت بالطبع. قضينا بعدها بضع أمسيات مشحونة بالجدل. محمد يحب الجدل، والعند أيضاً، ويمارس الإثنين بالإخلاص نفسه. حين سمعت الخبر، فعلت كما يفعل الناس في تلك الحالات، الإنكار، وبعند يضاهي عناده في المناقشات: ربما فقد هاتفه أو سُرق حسابه في "فايسبوك". يصل الإنكار بالناس إلى حد لا يمكن تخيله من الشطط. قرأت عنه في الماضي بالتأكيد، وحتى أمس كنت لا زال أمنّي نفسه بسيناريوهات سخيفة: ربما هو من دبر عملية اختفائه، وسيظهر فجأة، ويفاجئنا جميعاً، مغامرة طائشة من مغامرات الروائيين.

تطلّب الأمر أسبوعاً حتى يخفت الأنكار، وتبقى السيناريوهات الأكثر عقلانية. ربما قُبض على محمد بشكل عشوائي، مثل مئات غيره قبل أسبوع، وفي الأغلب سيظهر في واحدة من النيابات في الغد أو بعد يومين على الأكثر. بحسب البيانات الحقوقية الأخيرة، منذ العشرين في الشهر الجاري، اعتُقل 2200 شخص على الأقل، مثُل 1531 منهم أمام النيابة، و85 مازالوا مختفين، عشرة غيرهم ظهروا بعد الاختفاء، وإثنان أطلق سراحهما. وباستثناء بيان في "فايسبوك"، تم تداوله وتوقيعه إلكترونياً، لم تُصدر أي جهة أو اتحاد أو رابطة، بياناً أو مناشدة بصفة رسمية بخصوص اختفاء محمد علاء الدين. وبين الصحف والمواقع الإلكترونية والمجلات الصادرة بالعربية، لم يتناول الخبر سوى "المدن" و"العربي الجديد" و"القدس العربي"، وكلها محجوبة في مصر. ولا كلمة واحدة في الصحف المصرية، حتى جريدة "الشرق"، التي كان محمد يكتب فيها مقالات رأي، قبل سنوات. خلال اليومين الماضيين، تداول أصدقاء محمد والمعنيون بقضيته خبراً منشوراً عنه في موقع جزائري، فلم يكن سوى ذلك متاحاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها