الثلاثاء 2019/09/03

آخر تحديث: 07:24 (بيروت)

الطبقة الوسطى المصرية: رثاء الذات

الثلاثاء 2019/09/03
الطبقة الوسطى المصرية: رثاء الذات
نادٍ ليليّ في القاهرة (غيتي)
increase حجم الخط decrease

في واحدة من رسوم "الكوميكس" التي عرضت على الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مؤتمر الشباب السابع، قبل شهر، يقف الضفدع "كيرميت" ممسكاً بالميكرفون لينقل خبر وفاة "المغفور لها الطبقة الوسطى بعد صراع طويل مع البلد". وسُمعت الضحكات في جنبات القاعة التي افتُتحت حديثاً في العاصمة الإدارية الجديدة، وضحك الرئيس نفسه، على النكات المتتابعة عن سياسات التقشف ورفع الدعم عن المحروقات. ولم يتضح بالضبط لماذا خصّ القائمون على جلسة "محاكاة الدولة المصرية"، الطبقة الوسطى تحديداً بالترحم، دون غيرها. فماذا عن الطبقات التي تمثل الغالبية الكاسحة من المصريين، والتي ترقد على جانبي خط الفقر؟ وكيف تأثرت بسياسات التقشف؟

يعود رثاء الطبقة الوسطى إلى الواجهة مرة أخرى، هذه الأيام، مع اتجاه البنك المركزي المصري إلى خفض معدلات الفائدة. فالشريحة التي تملك رفاهية الادخار، والأكسَل من أن تتوجه إلى الاستثمار أو المضاربة، ترى هبوط الفائدة اعتداء على قيمة مدخراتها، وعلى مداخيل ريعها المُعفى من الضرائب بالكامل. ولا يبدو هذا كله جديداً، فالطبقة الوسطى كانت قد أُعلنت وفاتها مراراً من قبل، ويشتكي منتسبوها بشكل دوري من انحسارها وذوبانها واختناقها.

فالطبقة الأعلى صوتاً، بحكم انتماء النخب الثقافية والبيروقراطية إليها، والأكثر تأثيرا-على الأقل نظرياً- كونها معيار الذوق العام والقائمة بدور ضبط الطبقات الأدنى نيابة عن الطبقة الحاكمة، من المفهوم أن تكون قادرة على تمثيل مصالحها، وتعميمها أيضاً بوصفها معياراً. فالطموح المحبط للقفز إلى أعلى، والقلق المستمر من السقوط، دفعا الطبقة الوسطى إلى تدوين مرثية طويلة عن نفسها، صعدت وتيرتها مع سياسات الانفتاح في عهد أنور السادات، واستمرت في عقود حسني مبارك الثلاثة، وتعود مرة أخرى بعد ثورة يناير.

ولا دليل على انحسار الطبقة الوسطى في الحقيقة. فتاريخ الدولة المصرية الحديثة يبدو تاريخاً لخلق الطبقة الوسطى وتوسيع قاعدتها، بدءاً من طبقة الأفندية التي مثلتها بيروقراطية محمد علي المتعلمة، وبعدها تصفية الإقطاع الزراعي لصالح اشتراكية الدولة وجيشها من موظفي القطاع العام، وصولاً إلى سياسات تحرير السوق ودمج الاقتصاد في المنظومة العالمية. ويمكن لنا الادعاء بأن عصر مبارك شهد توسعاً كبيراً في رقعة الطبقة الوسطى من حيث العدد، وتعميقاً لها من حيث مراكمة الأصول، بالتوازي مع إفقار الطبقات الأدنى. ويبدو التضخم العقاري والتمدد غير المسبوق في المدن الجديدة، والمجتمعات شبة المعزولة، والقرى السياحية، وانتعاش التعليم الخاص والدولي والخدمات الاستهلاكية، دليلاً على انتعاش الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، على حساب تحول دواخل المدن إلى مستنقعات من الفقر، وحدودها إلى أحزمة من العمران العشوائي. وفي خلفية هذا كله، كانت الطبقة الوسطى لاتزال تعزف لحنها الجنائزي الطويل، بشُعور ضيق الأفق بالمظلومية.

وفيما تذهب بعض التحليلات إلى أن ثورة يناير كانت انتفاضة للطبقة الوسطى، يدفعها طموحها لتحويل مكاسبها الاقتصادية والاجتماعية في عصر مبارك، إلى مكاسب سياسية أيضاً، فإن الصراع الذي نشب بعدها، يمكن النظر إليه بوصفه صراعاً بين شرائح الطبقة الوسطى نفسها أيضاً، وقد تم تحييد مصالح الطبقات الأدنى منه بشكل كبير. فالتيار السياسي العلماني وجماعة الإخوان والغالبية الساحقة من أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، تنتمي بشكل أو بآخر إلى صفوف الطبقة الوسطى. وتأتي اللحظة الاستثنائية في الخط الزمني لتلك الافتراضات، في جمعة الغضب، حين انضمت جماهير الأحياء الشعبية والمهمشين إلى حراك الطبقة الوسطى، ومطالبها، ونجحت في التغلب على الأجهزة الأمنية.

اليوم تنتهي هزيمة الطبقة الوسطى لنفسها، وتسليم مقاديرها للبيروقراطية العسكرية، إلى العودة إلى خطاب المظلومية ورثاء الذات، والذي، وإن كان لا يعدم أسباباً منطقية، لكنه يطبّع بشكل ضمني مع معاناة الطبقات الأدنى، ويرسخ الانفصال عنها وعن همومها، وكذا الاستسلام لموت معنوي طويل وبطيء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها