الثلاثاء 2019/09/17

آخر تحديث: 07:01 (بيروت)

الفيديوهات: سيناء وتخمينات وثورة

الثلاثاء 2019/09/17
الفيديوهات: سيناء وتخمينات وثورة
عائلات قبطية نازحة من سيناء إلى إحدى كنائس الاسماعيلية (2017 - غيتي)
increase حجم الخط decrease
بعد التأثير الواسع الذي حققته فيديوهات محمد علي، إلى الحد الذي دفع الرئيس السيسي للرد بنفسه على محتواها، ظهر فيديو للناشط السيناوي، والعضو السابق في "لجنة الخمسين" الدستورية، مسعد أبو الفجر. يتعلق الفيديو بالجيش أيضاً، وبموضوع أكثر حساسية، أي بعمليات "الحرب على الإرهاب" في سيناء. أثار توقيت نشر الفيديو كثيراً من التكهنات والتخمينات، تصل إلى تخيل صراع داخل أروقة النظام، يقف أحد أطرافه وراء الموجة المتزامنة من التسجيلات المصورة. لكن ليس هناك ما يوحي بصحة تلك الافتراضات الجامحة، ولو من بعيد.

فما يقوله الفيديو ليس جديداً تماماً، وربما ليس جديدا على الإطلاق. فأبو الفجر داوم على الكتابة في شبكات التواصل الاجتماعي، عن تلك النقاط كلها، وبتفاصيل مسهبة على مر سنوات. بل، حتى في عهد مبارك، صرّح بنقده للسياسات الأمنية في سيناء مرات عديدة. وخلال الأعوام الماضية، توالت تقارير صحافية وحقوقية، أصدرتها جهات محلية وعالمية، تقترب في مضمونها مما احتواه الفيديو. فالتخبط في إدارة الصراع في سيناء يبدو جلياً لأي متابع للأخبار: توالي الهجمات على كمائن الشرطة، والخسائر في أرواح الجنود والضباط بالمئات، عمليات الخطف والقتل التي تمارسها الجماعات الإرهابية ضد الأهالي بتهمة التعاون مع الجيش، وقيامها بتسجيلها ونشرها أيضاً. ورغم أن وتيرة تلك الهجمات، تراجعت بشكل كبير، فإن الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها الأهالي هناك مستمرة حتى اليوم، من تقييد حرية الحركة، والانقطاعات المتكررة والطويلة للاتصالات، إلى حظر التجول الممتد في المساء في أماكن بعينها. ما نعرفه بوضوح مثلاً أن الدولة تخلت عن الأقباط في شمال سيناء، فنزح معظمهم، إن لم نقل جميعهم، من العريش ورفح والشيخ زويد، بعد تكرار الهجمات ضدهم. ما لا نعرفه على وجه الدقة، ويصعب حصره، هو عدد النازحين من سيناء إجمالاً.

يبدو هذا كله معروفاً. لكن الواضح أن الوسيط الذي لجأ إليه أبو الفجر هذه المرة، أي الفيديو، له تأثيره الخاص. فالحضور الشخصي، بالصوت والصورة، يبدو أكثر مصداقية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بشهادة عيان، مباشرة وقريبة من الحدث، وليس مجرد تحليل أو رأي أو عرض لمعلومات. كذا، تبدو الفرجة أو الاستماع أسهل من القراءة، وأقدر على توريط المتلقي. فما أثبتته فيديوهات محمد علي، هو أن الفيديو وما يتيحه من حضور الشخصي، وسيط أكثر نجاعة للوصول إلي جمهور أكبر، وفي الأغلب هذا ما دفع غيره لأن يحذو حذوه.

فبالإضافة إلي أبو الفجر، تم تداول تسجيل صوتي قبل يومين، بلا قيمة تقريباً، يدّعي صاحبه أنه خدم أو يخدم في سلاح المدفعية، وإن كان محتواه لا يشي بذلك. وأمس، نُشر فيديو لضابط شرطة سابق، يتهم اللواء كامل الوزير، وزير النقل الحالي، بالتحريض على جريمة غسيل أموال لصالح القوات المسلحة.

من جانبه يتهم أبو الفجر القيادات العسكرية بالتقصير الفادح في صلب مهام وظيفتها، ويصل في لائحة اتهاماته إلى عائلة الرئيس نفسه. وبالطبع، لا يمكن التعامل مع محتوى الفيديو أو غيره، بوصفه حقائق، أولاً لعدم توافر الوسائل للتوثق من صحته، وثانياً لعدم رغبة النظام في التصدي لمثل تلك الاتهامات أو تفنيدها بشكل مسؤول. وستبدو أيضاً إشارة أبو الفجر لرفض الجيش، عرضَ الأهالي في سيناء التصدي للإرهابيين بأنفسهم، غير مقبولة لدى الكثيرين. فحمل السلاح ومكافحة الإرهاب وغيره من الجرائم، يجب أن يظل محصوراً في الدولة وأجهزتها الأمنية. أما تعاون القيادات الأمنية مع عناصر إجرامية، والاعتماد على مرشدين من بينهم، فلن تبدو لكثيرين طريقة مُثلى للتصدي للإرهاب، لكنها واحدة من الوسائل التي تلجأ إليها الأجهزة الأمنية والجيوش في أماكن كثيرة حول العالم.

لكن ما يستدعى الانتباه في فيديو أبو الفجر، ليس فقط صحة اتهاماته من عدمها، ولا اتفاقنا أو اختلافنا مع مأخذه على النظام، بل أيضاً الوضع السياسي الذي تظهر بسببه وفي سياقه تلك الفيديوهات. فدعوة محمد علي للشعب للنزول إلى الشوارع في فيديوهاته الأخيرة، مقترنة بتخمينات الكثيرين عن أن أذرع داخل النظام تقف وراءها، أو على الأقل هي مستعدة لدعمها، يجب أن تجبر النظام على إعادة حساباته. فمع أنه من المستبعد أن تثير دعوات "الثورة" استجابة فعلية على الأرض، ففي المدى البعيد تبدو الأمور قابلة للانفلات. في ظل غياب كامل لحرية الإعلام، وبالتحديد في سيناء التي تُحرم من دخولها وسائل الإعلام في المطلق، ومع انعدام الشفافية والرقابة من قبل المؤسسات المنتخبة والمجتمع المدني، ومع اتباع النظام سياسات التخوين والطعن الشخصي والإشاعات والسجن والإخفاء القسري في مواجهة أي صورة من صور النقد، ومع تحييد فكرة المعارضة الحزبية تماماً حتى بشكل صُوري، ستظل كل تلك الاتهامات التي وجهها أبو الفجر وغيره معلقة، وبلا إجابة، وقابلة للتصديق بل والتضخيم ونسج نظريات المؤامرة حولها، طالما لا طريقة للتيقن من صحتها.

ما يظنه النظام سيطرة كاملة على المجال العام، وقبضة حديدية فرضها على مقدرات الأمور تعمل الآن لغير صالحه، ولغير صالح الوطن أيضاً، فالفيديوهات لا يبدو أنها ستتوقف قريباً. وإن توقفت إلى حين، سيظهر غيرها، والاتهامات والشكوك والتخمينات تزيد يوماً بعد يوم. أما ثقة الجمهور في الدولة، وثقة أفراد أجهزتها فيها، فتتآكل مع الوقت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها