الأحد 2019/08/18

آخر تحديث: 10:18 (بيروت)

فرح السودان..مبروك

الأحد 2019/08/18
فرح السودان..مبروك
increase حجم الخط decrease

الربيع العربي الذي كاد أن يصبح تهمة مشينة، مسبّة مهينة، سخرية محرجة، عاد ليزهر من جديد، بأقل قدر ممكن من التضحيات والخسائر، وبأسلوب عفوي منضبط، وبلغة بسيطة واضحة، وبشكل لا لبس فيه ولا إعجاز.

إستطاع السودان أن يصنع ذلك التحول الذي يبدو تاريخياً ، مع أنه من عاديات العصر وروحه وقيمه، وأن يكتب ذلك الفصل الجديد من قاموس العرب المعاصر، الذي كادت القوى المناهضة للتغيير والتحديث، تمزقه إرباً، وترميه في مجاهل الطغيان والتخلف.

ببساطة شديدة، توصل السودان وشعبه الى اكتشاف الطريق الصحيح للمستقبل: إزاحة العسكر من السلطة، بالتدريج ومن دون إستفزاز، وبالحد الادنى من التصميم والارادة، وإبعاد الاسلاميين عن الحكم ، بالحكمة والروية ، وبالحد الاقصى من الحرص على عدم الاشتباك مع الدين، ومع نصوصه ومع وصاياه وأوصيائه.  

ولعل ما سهل مهمة الاشقاء السودانيين هذه، هو أن الحلف الخفي المقدس بين العسكر وبين الاسلاميين، والذي يبدو في بقية بلدان العالم العربي مموهاً وموارباً، كان مكشوفاً ومفضوحاً في السودان، وكان هو بالذات الكابوس الجاثم على صدور السودانيين منذ ثلاثين عاماً أو أكثر، والذي يعطل أي فرصة للتغيير، وأي أمل بالتطور الطبيعي للدولة والمجتمع في ذلك البلد الغني بتجربته وثقافته وطبيعته.

فرح السودان الذي عمّ بالامس، وشعر به العرب جميعاً، هو الاسم الرمزي لذلك الانجاز الباهر: تفكيك ذلك الحلف، وتنحيته تدريجيا عن السلطة، من خلال تمهيد السبل نحو إعادة العسكر الى الثكنات والشيوخ الى المساجد.. وعدم تمكين الجانبين من إستدراج الشارع السوداني الى مواجهة مسلحة، كما كان مخطط بعض كبار ضباط الجيش ومعظم حلفائه الاسلاميين.

لم يكن فرح السودان معجزة، أو إبداع إستثنائي، أو منعطف في الوعي، إلا بمعنى وحيد، هو أن الشبان والشابات السودانيات الذين صنعوا الثورة وحافظوا عليها طوال الشهور الاربعة الماضية، كان يسيرون عكس التيار الذي أطلقته قوى الثورة المضادة طوال السنوات الست الماضية، وجرفت بواسطته وعوداً حقيقية بالتغيير في السودان، كما في مصر وليبيا وسوريا وغيرها من البلدان التي مرّ عليها الربيع العربي، ولم يفلح في تبديل فصولها السياسية.

وهنا قد يبدو فرح السودان يتيماً، إلا من بعض التعاطف الشعبي الخجول، في تلك البلدان بالذات، ومعها الجزائر طبعا. فالسنوات الثماني الماضية لم تنتج، لسؤ الحظ، حركة شبابية عربية عامة، تجمع رموزاً من الشبان والشابات العرب الذين يلتقون، في السر او في العلن أو حتى على الفايسبوك، للبحث في مآلات "الثورة العربية الراهنة"، بإنجازاتها وإنتكاساتها، ولوضع خطط تحرك وتفاعل وتضامن تمتد من الرباط الى الخرطوم، وبغداد، ولا تستثني دول الخليج العربي.. لكنها ولسؤ الحظ أيضاً أنتجت إئتلافين مضادين، أحدهما عسكري يحرك قواته المسلحة وأجهزته الامنية على إمتداد العالم العربي، والآخر إسلامي ينشر الشبكات والخلايا الارهابية على مساحة العالم كله. وكلا الائتلافين كانت ولا تزال أوامره وأهدافه واضحة ومحددة: تحطيم آمال الجيل العربي الجديد وطموحاته الطبيعية في كل مكان.

فرح السودان يتيم، لكنه ليس لقيطاً. تقاسم ذلك الشعور وتعميمه لم يكن بحاجة الى إيعاز من أحد. المشاركة العربية كانت عارمة، وإن تكن خفرة حتى الآن.. وهي كانت معطوفة على اسئلة عربية تلقائية مباشرة، من نوع: متى مصر؟ متى يزاح هذا العار العسكري وذلك العيب الاسلامي عن الشطر الشمالي من وادي النيل؟ متى تنجو ثورة ليبيا من الاعتداء الداخلي والخارجي المضاد عليها؟ متى تتخلص سوريا من عدوان النظام وشريكيه الروسي والايراني؟ متى تحدد الجزائر موعدها المؤجل مع إعلان قيام الدولة المدنية الديموقراطية الشبيهة على الاقل بالتجربة التونسية؟

فرح السودان هو بلا شك موعد جديد مع المستقبل العربي الذي لم يعد يستطيع تأجيل الرد على هذه الاسئلة العفوية الملحّة.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها