الإثنين 2019/07/29

آخر تحديث: 11:20 (بيروت)

إنقاذ المسيحيين مهمة لبنانية

الإثنين 2019/07/29
إنقاذ المسيحيين مهمة لبنانية
increase حجم الخط decrease
كسرت "الدولية للمعلومات" التابو اللبناني بنشرها إحصاء للسكان، يُظهر الفارق الشاسع بين أرقام اليوم، وتعداد عام 1932 وتوازناته الطائفية، وبشكل يفوق المتوقع، وتحديداً ورود المسيحيين بمجموع طوائفهم في المرتبة الثالثة بعد الشيعة والسنة. وفقاً للإحصاء، عدد اللبنانيين اليوم 5.5 مليون نسمة، أي أعلى بمليون تقريباً عن الرقم المتداول اليوم. لكن بين هؤلاء 1.3 مليون من غير المقيمين. وبين هؤلاء اللبنانيين، مليون و686 ألف مسيحي، بنسبة 30٪ فقط. كل من السنة والشيعة، على حدا، أكثر من المسيحيين تعداداً. الشيعة (مليون و743 ألفاً) أكثر من السُنة (مليون و721 ألفاً) بنسبة قليلة جداً. 

كيف نقرأ هذا التعداد؟

أول سؤال يُطرح في هذا المجال، يطال عادةً شرعية المناصفة. لو أخذنا بالمنطق العددي، حتى المُثالثة غير عادلة، ومُهددة بعد زمن. إلا أن هذا المنطق لا يصح في الحالة اللبنانية. فالمسيحيون المكون الرئيسي والأبرز للهوية اللبنانية، ولا مخيلة وطنية جامعة دونهم. وهذا إلى حد كبير محط إجماع وحرص لدى كافة أركان الطبقة السياسية، بالتصريحات العلنية على الأقل. وينم هذا الموقف الأخير عن فهم لمخاطر التراجع المسيحي، على لبنان ككيان بشكله الحالي. ترجمة الديموغرافيا الى السياسة في لبنان، تعني على المديين القصير والمتوسط، مُثالثة بغالبية اسلامية، على أن تليها بعد جيلين أو ثلاثة مناصفة سنية-شيعية. ومثل هذا النظام الثنائي القطب كفيل بإنهاء التعددية، وبالتالي سيضم لبنان إلى باقة الدول المحافظة دينياً في المنطقة، مع مجموعة جديدة من الصراعات المذهبية المستدامة، ناهيك عن خنق الحريات الاجتماعية والسياسية، وهي الآن ليست بالقليلة مقارنة بالجوار.

لا يُقصد بهذا الكلام الانتقاص من طائفة، أو تفضيل واحدة على أخرى، على أساس قاعدة "الكم والنوع"، بقدر التشديد على أهمية التعددية بوصفها ضمانة لمساحة من الحريات والانفتاح، وهي مفتاح للتمايز في منطقة بات التطرف والأُحادية فيها قاعدة لا استثناء.

لكن هذا الكلام وحده لم يعد ينفع أمام مثل هذه الأرقام الداهمة. بات المطلوب تبني الدولة اللبنانية سياسات تجنيس تفضيلية تُبعد شبح التراجع السكاني المسيحي عن لبنان، ربما عبر استقطاب مسيحيي الاغتراب بسياسات تشجيعية، أو من خلال فتح باب التجنيس لأقليات مسيحية في دول الجوار. ولا بد أن تترافق هذه السياسة مع تبدل ايجابي في الخطاب السياسي المسيحي، بعيداً عن الطروحات الفئوية السائدة حالياً. ويُفضل بأن تتزامن مع منح اللاجئين الفلسطينيين حق العمل والتملك كأي مقيم دائم في دولة تحترم نفسها وسكانها.

ليست هذه السياسة التفضيلية مذهبية أو عنصرية بطبيعتها، بل هناك مثيلات لها في العالم الغربي لتصحيح خلل مجتمعي يمس التعددية وجوهر الهوية الوطنية. على سبيل المثال، فتحت ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، باب الهجرة لليهود ومنحت آلافاً منهم الجنسية. في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، سياسات تشجيعية في الاقتصاد وقطاع التعليم العالي والمنح الحكومية لمساعدة أبناء الأقليات الإثنية. 

وينفع في اطار مناقشة هذه السياسات، التذكير بأن هذا الخلل السكاني ليس طبيعياً، لجهة اقتصاره على ارتفاع نسب الولادات الطبيعية فحسب، بل يأتي أيضاً نتيجة تراكمات سياسية ليست بالبريئة. هناك أعداد كبيرة من المسيحيين هاجرت بلا عودة، ولأسباب سياسية واجتماعية، ولم تُسجّل أبناءها وأحفادها لدى ولادتهم. ربما هذا يُفسر الفارق بين نمو المسيحيين وفقاً لإحصاء "الدولية للمعلومات"، 174.5% مقابل 785.1% لدى المسلمين. وللهجرة المسيحية أسباب لها علاقة بالحرب، وبنمو التيارات الدينية عند السُنة والشيعة على حد سواء. ينفع التذكير بأن إيران وخصومها العرب أنفقوا خلال العقود الأربعة الماضية عشرات مليارات الدولارات لإذكاء التيارات الدينية عند الشيعة والسنة. انعكس ذلك على المناطق المختلطة دينياً، لجهة احتلال المساحات العامة باللافتات والاحتفالات الاسلامية والمظاهر المسلحة، أو استهداف محلات الكحول ومطاعم تُقدمها. وهذا السلوك يمس بطريقة حياة مجتمعات بأسرها، وبقيمها واحتمالات استمرارها. كيف نُفسّر اذاً انحسار الوجود المسيحي في المناطق ذات الغالبية الاسلامية، واستمرار وانتعاش الأقليات المسلمة في المناطق ذات الغالبية المسيحية؟ أليس علينا أن نطرح أسئلة سياسية واجتماعية عن الأسباب الموجبة لذلك؟

لذا من الواجب تقديم أي سياسة تفضيلية للرأي العام على أنها تصحيح لمسار سلبي بدأ منذ عشرات السنوات، كان المسيحيون ضحاياه، ولا بد من تعديله كونه يُمثل تهديداً وجودياً للكيان اللبناني كما نعرفه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها