الثلاثاء 2019/07/23

آخر تحديث: 08:04 (بيروت)

الماضي كقصة معاصرة

الثلاثاء 2019/07/23
الماضي كقصة معاصرة
تعليقات ساخرة ربطت جمال عبد الناصر بخيرت الشاطر، باعتبارهما قادرين على الوصول بكل شيء للهزيمة
increase حجم الخط decrease

سبق ذكرى ثورة 23 يوليو هذا العام، سيل من "الميمات"، تم تداولها بكثافة في وسائط التواصل الاجتماعي، وسخر معظمها من عبد الناصر والضباط الأحرار. ولسبب ما، تحول هذا السيل إلى جزء من الموجة ضد رموز من جماعة الإخوان، سواء من جيل المؤسسين أو الجيل الحالي. فتم تركيب رأس خيرت الشاطر، على جسد عبد الناصر، وهو يلوح من القطار للجماهير. وأضيفت للصور تعليقات ساخرة تربط بين الرجلين في القدرة على الوصول بكل شيء إلى هزيمة نكراء.

ولا يبدو ذلك حدثاً استثنائيا بأي شكل، فالـmemes أضحت لغة قائمة بذاتها منذ وقت طويل، ويستطيع طرفان أو أكثر تبادل حوار تهكمي كامل بالاعتماد عليها فقط. وكذا، فإن ثورة يوليو، وغيرها من المناسبات الوطنية، قد أضحت بشكل اعتيادي فرصاً سنوية للسخرية المتبادلة، والانتقام من السرديات الوطنية المعتمدة. وجاءت إخفاقات الفريق المصري في بطولة كأس الأمم الأفريقية، مناسبةً إضافية لاستحضار الماضي، وربط السياسي بالرياضي. فحلّ رأس محمد صلاح، هذه المرة، على جسد عبد الناصر، الذي أصبح بشكل أو بآخر في لغة "الميمات" مرادفاً للهزيمة.

لكن الأمر لا يتعلق بالسخرية فحسب، بل يبدو عنصراً في موجة واسعة للعودة للأرشيف. فالصور التاريخية التي تتم معالجتها وإعادة تركيبها بهدف التهكم، يواكبها من الجهة الأخرى رجوع للأرشيف الملكي للاحتفاء بصور مصر قبل يوليو. ولا تقتصر ظواهر العودات النوستالجية أو الضد-نوستاليجية تلك، على وسائل التواصل الاجتماعي. فجهد غير قليل يبدو مبذولاً من بين ألمع المواهب الصحافية والمواقع الثقافية في مصر اليوم، للنبش في الأرشيف، والكتابة عن الماضي، ليس بدوافع تأطير "العصر الذهبي" بالضرورة، بل أحياناً بحافز توقير متصاعد للعمل الأرشيفي.

فعلى سبيل المثال، في مجال الدراسات الأدبية، كان واحد من أنجح الأعمال مؤخراً، والأكثر لفتاً للانتباه، منسوباً للجهد الدؤوب والتوثيقي عن نجيب محفوظ، للصحافي والباحث المصري، محمد شعير. ولا يبدو من باب المصادفة أن يكون غلاف واحد من أكثر الكتب الأدبية رواجاً هذا العام، رواية "كحل وحبهان" لعمر طاهر، مزيناً بصورة لمديحة كامل. ويأتي هذا بعد النجاح الاستثنائي، العام الماضي، لكتاب آخر لطاهر، عنوانه لا يقل أرشيفية ولا نوستالجية، "صنايعية مصر: مَشاهد من حياة بعض بناة مصر في العصر الحديث". أما في ما يخص الحقل الأكاديمي، فإن القليل الذي يتم استثماره في العمل البحثي عن مصر، يظل مرتبطاً بشكل كبير بالأرشيف، أو على الأقل ما يجذب انتباه الميديا والرأي العام من تلك الأبحاث، يظل مرتبطاً به. ولا يتوقف ذلك على البحث التاريخي، المتمحور في معظمه حول تأسيس الدولة الحديثة في مصر، والذي يبدو إنتاج خالد فهمي أكثره جماهيرية وتأثيراً. بل يمتد من الإنسانيات إلى فروع العلوم الاجتماعية، والتي ينصبّ كثير من عملها على جنيولوجيا أو أركيولوجيا أرشيفية، وغالباً ما تتخذ من عهد محمد علي أو الاحتلال البريطاني نقطة بداية لها.

وليس من المفاجئ أيضاً أن يكون عدد ليس بالقليل من منح المؤسسات الثقافية في الفنون البصرية والآداب، قد ذهب خلال الأعوام القليلة الماضية، إلى مشاريع إبداعية متمحورة حول الأرشيف، أو مرتبطة بالعمل الأرشيفي. ولا ضرر في هذا كله بالطبع، بل وعلى العكس فهناك حاجة للمزيد من العمل الأرشيفي وفي المجالات كافة، لكن اللافت للانتباه هو تلك الهيمنة الأرشيفية على عداها، وكذا جماهيريتها الاستثنائية.

بالطبع تبدو العودة للأرشيف ومراجعته، توجهاً يتصاعد عالمياً. لكنه يمثل اليوم، في بلد مثل مصر، ملجأً آمناً إلى حين، وتعبيراً عن الإحباط من الوضع القائم أو هروباً منه، يمتزج بتوجّه نوستالجي أقدم، لطالما وجد ضالته في الماضي، من أول الحركات الإسلامية إلى أصوليات ثقافية أخرى أحدث عهداً. لكن، في الوقت نفسه، يظل تعثر الوصول إلى المادة الأرشيفية واحداً من أهم أسباب الهوس بها، ومحاولة تعويضها. فأحداث التاريخ القريب، والتي تظل سجلاتها مغلقة أمام الفحص، تبقى موضوعاً لتجدد الجدالات في مواسمها الدورية، بلا حسم، ويفرغ الجمهور إحباطه العاجز بسخرية "الميمات" نصف الأرشيفية، أو بالرجوع إلى الماضي من أبواب أخرى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها