الثلاثاء 2019/07/16

آخر تحديث: 20:40 (بيروت)

في أزمة اليسار واليسار العربي

الثلاثاء 2019/07/16
في أزمة اليسار واليسار العربي
متظاهرون مؤيدون لبشار الأسد أمام الفندق الذي استضاف مؤتمر "أصدقاء سوريا" في تونس 2012 (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لا يعود مصطلحا اليمين واليسار تاريخياً، كما نظن، إلى فترة الحرب الباردة حيث تنازع العالم قطبان هما: المعسكر الاشتراكي بقيادة الإتحاد السوفياتي سابقاً، والمعسكر الرأسمالي الغربي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، وإنما يرجع الأمر إلى الثورة الفرنسية حين جلس النواب الفرنسيون الموالون للملك على يمين رئيس البرلمان، بينما جلس البقية على يساره. كان الملك وأنصاره "اليمينيون" يريدون الحفاظ على مكتسباتهم وامتيازاتهم السياسيّة، وذلك بالحفاظ على الأمور على ما هي عليه ولهذا ارتبط هذا التوجه غالباً بنزعة المحافظة أي الحفاظ على ما هو قائم وهذا يتناسب مع السلطة كبنية تريد الاستقرار وتثبيت الواقع على ما هو عليه بعد أن يستتب لها، أو إصلاحه بشكل بطيء ومتدرج إن هي اضطرت لذلك وهي لهذا تقاوم بشدة أي حركة تغيير عنيفة تتجلى في الثورات.

وعموماً يحضر مفهوم اليسار السياسيّ في وعينا، مرتبطاً بالأفكار التقدميّة، بالمساواة وبالعدالة الاجتماعية، وبالنضال ضد القوى الرجعية والمحافظة. بينما ارتبط اليمين بالاستقرار وبالتمسك بالتقاليد وبالمحافظة. ومع أن هذا الانطباع خاطئ، فالتاريخ يخبرنا أن الكثير من الأفكار التقدمية ظهرت عند اليمين والكثير من الممارسات الرجعية ظهرت عند اليسار بخاصة في أيامنا هذه. وكما أن لليمين محافظيه وصقوره، فإن اليسار لم يخلُ بدوره من التطرف، بل إن بعض الهيئات والمنظمات التي تنسب نفسها إليه ارتبطت بالإرهاب، كما كان عليه الحال مثلاً مع "الألوية الحمراء" في إيطاليا أو جماعة "الجيش الأحمر" المعروفة كذلك باسم "بادر مينهوف" في ألمانيا. ولنتذكر أن العنف الثوري اليساريّ وجد تنظيراته ليس فقط عند ماركس، وإنما عند أخلافه أيضاً، حتى أن سارتر يبرره في مسرحية الأيدي القذرة.

رغم ذلك، يظل صحيحاً أن اليسار يتمسك بالقيم الأكثر نبلاً في سلّم القيم، إلا أن المشكلة الكبيرة التي وقعت لليسار تمثّلت في اختطافه أيديولوجياً وتحوله إلى اسم علم للثورة البلشفية وتجسده السياسيّ في الإتحاد السوفياتي السابق. لم يحصل هذا الاختطاف بالصدفة فالشيوعية الماركسية ترفع شعارات تحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة وتعمل على مواجهة الاستغلال ولا إنسانية الرأسمالية المتوحشة؟ أليست هذه هي قيم اليسار وسعيه الأبدي نحو العدالة والتوزيع العادل للثروة ومنع استغلال الإنسان للإنسان؟

لتفسير هذا الاستلاب المعلن لليسار مع نشوء الإتحاد السوفياتي عليّ أن أتوقف عند ثلاث مشاكل برأيي أدت إلى اغتيال النضال اليساري وحرفه عن أهدافه وتطويعه من قبل القوى المحافظة ليصبح أداة لقهر الانسان واستعباده في مفاهيم وقيم يسارية تحولت لسجون وصارت تمارس الدور النقيض لما هو منتظر منها. المشكلة الأولى برأيي، هي مشكلة نظرية بحتة تتعلق بسرعة انتهاء صلاحية الأيديولوجيا وتسممها بعد فترة قصيرة من تحولها إلى قوة مؤسسة فاعلة موجِّهة وقائدة للنضال. الأيديولوجيا بوصفها أداة عمل تتمتع بطبيعة أداتية فتتأقلم وتؤقلم النظري ليصبح مطواعاً ومستجيباً للمتطلبات العملية السريعة والمتغيرة. هكذا تفقد الأفكار النظرية قدرتها على المقاومة والرفض وتصبح أكثر تصالحاً مع الواقع والممكن وإكراهاتهما، وبتعبير آخر تصبح يمينية محافظة. طبعاً من دون مثل هذا التأقلم، ستعجز الأيديولوجيا عن أن تتحقق ربما، لكنها بتحولها هذا تقفز بسرعة من جهة اليسار إلى جهة اليمين. والمشكلة الثانية التي أود التوقف عندها تتمثّل في سرعة فساد الأيديولوجيا الاشتراكية بعد تحالفها القوي مع الدولة الشمولية التي احتكرت مفهوم اليسار حتى أصبح الاسمان (أي يسار ودولة شمولية بوليسية رغم عدم وجود علاقة ضرورة بينهما) يدلان على مسمى واحد فارتبط اليسار بالدولة الشمولية. لا شك أن الدولة الشمولية تقوم بأقصى درجات قمع الحريات واستغلال وامتهان البشر بوصفهم مجرد وقود لمبادئ كبرى وأهداف شاملة مفرغة من المعنى تقوم السلطات الحاكمة في الدول الشمولية بتجريدها من أي فاعلية مع الاستمرار باستخدامها للتحكم بالشعوب التي لا قيمة لها هنا سوى ببقاء السلطة.

وتبدو رواية "مزرعة الحيوان" (1945) لجورج أوريل، نبؤة مبكرة على هذا الفساد في الأديولوجية وسهولة انقضاض رجال السلطة ممثلين فيها بالخنازير على الثروة العامة واستلابها. في حين أجد أن المشكلة الثالثة هي فقر الرؤية الاشتراكية في النظر إلى القيم الإنسانية وهي قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات الفردية. كانت الاشتراكية ترى أن هذه القيم هي نتاج المجتمع البرجوازي وإفرازاته، وإن الاشتراكية التي تنادي هي بها تتجاوز إنسانياً وقيمياً. ورغم كل مساوئ الرأسمالية، لكن لا بد من التذكير أن قيم حقوق الإنسان والحريات هي بنت الحداثة الأوروبية البرجوازية المترسملة.

مطعن الاشتراكية القاتل أنها اعتبرت أن الكل أهم من الجزء وأن المجتمع أهم من الفرد وأن المشاريع أهم من الإنسان وأن الوطن أهم من المواطن وأن الاشتراكية أهم من الفردانية. في حربها مع البرجوازية الرأسمالية رفضت الاشتراكية كل ما تبنت البرجوازية من قيم كرد فعل ميكانيكي ساذج عليها فخسرت بذلك الكثير.

بوصول أفكار الاشتراكية الغربية مع بدايات القرن الماضي، ظهرت أولى بوادر تشكل ما سيسمى بالربيع العربي في أوائل العشرينيات من القرن العشرين. ثم مع نشوء الاتحاد السوفياتي ونشاط الدعاية للدولة السوفياتية، شهد العالم العربي تشكُّل أحزاب شيوعية عربية، لكنها متأثرة بشكل استلابي للمركز أي للاتحاد السوفياتي والبروباغندا الاشتراكية السوفياتية القائمة بشكل أساسيّ على الأيديولوجيا لا على الفكر. لا شك أنه لا يمكن وضع اليسار العربي كله في سلة روسيا السوفياتية، لكن للأسف طغى هذا الوجه الستاليني على صورة اليسار العربي واحتكرها وصار الناطق شبه الوحيد باسمها. وكما هو الحال دائماً في السياسة، بحث قادة السوفيات عن مصالحهم لا عن القيم التي تشكل اليسار فصاروا يتحالفون مع الحكومات العربية والطغم السلطوية الفاسدة نتيجة فسادها واستغلالها ثروات البلاد لصالح فئة صغيرة مستفيدة من السلطة ومفقرة بذلك عموم الشعب. ولهذه الأسباب وجد اليسار نفسه في مواجهة أنظمة شرسة مسؤولة بشكل كامل عن الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي وتفقير الشعوب. هكذا اصطدمت أحزاب اليسار مع السلطات الحاكمة في العالم العربي الذي نكّل بقوى اليسار ولاحقها وعذّبها وسجنها، بل وصفّاها. وليس مثال الشهيد فرج الحلو سوى مثال بارز على أمثلة غيره، دفع اليسار ضريبتها بالكامل.

في ذلك كله، لم تدافع روسيا السوفياتية عن أنصارها وأتباعها من الشيوعيين أو اليساريين العرب، بل استمرت في تحالفها مع الحكومات العربية التي تكشفت لاحقاً عن وجه يماثل وجه الدولة السوفياتية، أي عن دول شمولية بوليسية. لم تكتف باضطهاد الشعوب، بل نجحت في يمنَنة اليسار، أي جعله مجرد واجهات شكلية ميتة تحتاج لها كمجرد برواز لتقديم صورة زائفة عن استيعابها للاختلافات السياسية. توهم اليسار أن حربه مع السلطات العربية القائمة مؤجل، لأن هناك معركة أكبر خارجية، ضد قوى الامبريالية العالمية التي تحاربها هذه الأنظمة الشمولية نفسها، فصار هناك تحالف، بل وتواطؤ رضي به اليسار العربي وشرعن بذلك سلطة الدولة البوليسية ذات النموذج السوفياتي. هكذا، لم ينتبه اليسار العربي إلى أنه يخضع لعملية مسح دماغ مبرمجة وشاملة، ليتحول إلى أداة في أيدي الدولة الشمولية العربية التي تتبنى بعض أنظمتها (ولو مجرد تبنٍّ فارغ) شعارات اشتراكية مناهضة للرأسمالية والاستغلال.

في الدول العربية كان أكثر نظام سياسيّ تمثيلاً لازدواجية الدولة الشمولية الاستبدادية، والشعارات الاشتراكية الرنانة، هي دولة العسكر، أو الدولة الأمنية التي راحت تتناسل بشكل تقهقريّ، أي من سيء إلى أسوأ، ابتداءً من ثورة يوليو 1952 وتولي جمال عبد الناصر الحكم العام 1956، وصولاً إلى بشار الأسد والسيسي وكل الأنظمة العسكرية الصريحة والمقنّعة في هذا العالم العربي البائس.

في العالم العربي، لن تُفاجأ اليوم حين تجد اليسار متحالفاً مع أكثر القوى رجعية وشمولية وهمجية في العالم. فالعديد ممن يظنون أنفسهم حمَلَة لواء اليسار والمناضلين ضد الإمبريالية العالمية والمناصرين لقضايا الدول العادلة والفقيرة، يقفون اليوم ضد الشعوب التي ثارت ضد ديكتاتوريات سحقت الناس وأذلّتهم. أي يقفون ضد مبادئ اليسار الأولى في الوقوف مع الجشعين والمستغِلين وأصحاب رؤوس الأموال الموظفة في استغلال الناس واستعبادهم. في هذا اليسار الذي يمشي على رأسه، لن تستغرب مثلاً "حجّ" مجموعة من مثقفي اليسار التونسي لتقديم آيات التبريك والدعم لديكتاتور مثل بشار الأسد، قتل شعبه ليبقى في السلطة. طبعاً لا يمكن تبرير صنيعهم هذا بحجة وقوفهم مع رئيس عربي مقاوم يواجه الغرب الإمبريالي.

هل علينا أن ننقذ اليسار اليوم؟ وكيف؟ ولماذا؟ طالما كان هناك ظلم واغتصاب حقوق واضطهاد وتمييز وجور واستبداد، يظل النضال ضد هذه الانحرافات شأناً إنسانياً، بل لعله الشأن الأكثر إنسانية. وليس اليسار سوى هذا النضال لتحقيق العدالة والحرية والمساواة وكل المبادئ الإنسانية النبيلة، التي سيكون من مهام اليسار مراجعتها دائماً لكي لا يتم استثمارها وتشويهها بشكل خاطئ ومنحرف يخدم مصالح القوة ورأس المال والظلم الاجتماعي. بهذا المعنى، اليسار موجود قبل أن يأخذ اسمه وهويته الحديثة. موجود منذ سبارتاكوس، وثورة الزنج وكل مناضلي وحركات وثورات التاريخ التي دفعها الظلم والاضطهاد والاستغلال إلى الثورة على المستغِلين والعمل على إعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة. بهذا المعنى، لا معنى لوجود الإنسان إن لم يكن هناك يسار ويساريون. العالم من دون يسار، هو عالم متروك للظلم والطمع وصراع القوى وجشع رؤوس الأموال. عالم بلا يسار، ليس عالماً للبشر الأحياء، وإنما لآلات وروبوتات مُستلبة من دون إرادة أو وعي. إنقاذ اليسار من متاهته، إذن، هو واجب اليسار نفسه، المُطالَب بالتخلص من كل صدأ الأيديولوجيا. لكن، كيف؟

مع الحراك الشعبي الكبير والمستمر منذ حوالى عقد من الزمن، ومع تراخي قبضات السلطات الحاكمة على مقدرات المجتمع ومصائر الناس، تظهر في العالم العربي وللمرة الأولى ربما، إمكانية نشوء يسار عربي حقيقي. ففي مقابل السطة المطلقة للأنطمة العربية الحاكمة والقوى الدينية الرجعية، تسمح الإرادة الشعبية بتكوين هوامش تنظيمية تسمح بخلق مؤسسات مجتمع مدني فاعلة وحقيقية، قليلة الأيديولوجيا، وواعية بكون اليسار هو قوة مقاومة للاستبداد والاستغلال والسلطات الغاشمة والحركات الإسلامية الأصولية. لكن، ولكي يكون اليسار الجديد نظيفاً معافى، ليس عليه أبداً أن يطمح إلى السلطة، وإلا انتهى كخنازير جورج أوريل في "مزرعة الحيوان" وككل الدكتاتوريين الذين مروا باسم اليسار من ستالين إلى جمال عبد الناصر وصولاً إلى كاسترو وشافيز. يجب أن يظل اليسار مقاومة مجتمعية، قد تأخذ شكل نقابات ومؤسسات ولجان حريات وحراك اجتماعي، لكن أبداً ليست أحزاباً وبرامج سياسية وبرامج انتخابية وحكومات.

لا تزال الرأسمالية وحشاً حياً باقياً ويتمدد، فيزداد عدد فقراء الأرض ويتضاعف تعدادهم بشكل خطير مما يهدد قوت يومهم ومستقبل أبنائهم، بل ومستقبل البشرية على الأرض. وهذه الرأسمالية لا تكترث لأي قيم إنسانية، ولا حتى لمصير كوكب مهدد بالاختناق بما فيه ومن عليه...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها