الأحد 2019/06/09

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

الساروت: خطورة الرمز

الأحد 2019/06/09
الساروت: خطورة الرمز
increase حجم الخط decrease
رُقي الى مرتبة الاسطورة، لأنه يختزل سيرة شعب مسكين، وحكاية ثورة مجهضة.عديم التجربة في السياسة، محدود الخبرة في الامن، قليل الحيلة في تجنب الهاوية. يعيش على شفير الموت، حاول المرة تلو المرة أن يموت، لعلّه يلتحق بأفراد الأسرة التي أُبيدت بالكامل..وفي الطريق الى حتفه، كان الحداء سلاحه الأقوى، الذي يستخدمه ضد القاتل، لكنه يخفف به عن وجعه الخاص ويسعى الى تقاسمه مع الجمهور.   

في وداع عبد الباسط الساروت، تقترب فصول التراجيديا السورية من خاتمتها الحزينة. وتتحول مأساة الفرد الى رمز لبؤس الجماعة. في تشييعه الى مثواه  الاخير، تتوارى الشخصيات والتنظيمات والهيئات  التي أحتلت مساحة السنوات الثماني الماضية، بما فيها إسم التنظيم الذي ينتمي اليه الراحل، والذي لا يعرف حتى الكثيرون من السوريين عنه سوى القليل. هو يحمل صفة "جيش"، لكنه ليس جراراً ولم يكن حاوياً لذلك الشاب الذي فاجأ المتظاهرين في جميع الساحات، وأدهش المقاتلين على مختلف الجبهات، ولا يمكن أن يندرج في أي إيديولوجيا أو في أي هوية سياسية. الحارس، المغني، المنشد، البطل الشعبي، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.  
 

إنتهى وقت المفاجأة. آن الأوان للاستفسار عما إذا كان الشعب الذي حفزه الساروت، قد تعرض للابادة بالفعل، وعما إذا كانت الثورة التي تقطعت بها السبل، قد خابت بشكل كامل؟ أم أن الجنازة هي صرخة جديدة في وادي الذئاب التي تمزق لحم سوريا، يمكن ان تؤسس لما هو جديد، مختلف، متقدم عما جرت تجربته في ثماني سنوات عجاف، طويت صفحتها الآن برحيل الساروت، الذي كان مثله مثل غالبية السوريين بلا تجربة وبلا خبرة وبلا حيلة.

تحويل الشهيد الى رمز ليس وعداً كافياً. في سوريا الكثير من الرموز والقليل من المكونات التي تسد الفراغ الهائل، والفوضى العارمة، والفردية الشديدة. وهو حال المعارضة على إختلاف تشكيلاتها، التي لا يزال يقدر عددها بالمئات، ولا تجمعها سوى فوعة الدم أو نصرة الدين، وليس بينها كلام في السياسة ولا حتى بينها وبين المشتتين في مختلف أنحاء العالم، الذين لم ولن يتوصلوا في المستقبل المنظور الى ما يتخطى الالتقاء في مناسبات الهجاء والرثاء والبكاء والحنين. حرب التحرير الشعبية التي لطالما لوحوا بها في وجه المحتلين الروس والايرانيين، ما زالت أسيرة فرضية التدخل الخارجي المعرقل، والدعم الخارجي المعطل، وما زالت رهينة نظرية "حروب الاخرين" على أرض سوريا التي سبق أن روجها اللبنانيون لكي يعفوا أنفسهم من مسؤوليات الحرب، وإنهائها.

ليس لذلك الجمهور الذي أنشده وحفّزه وبكاه الساروت عنوان. هي نتيجة طبيعية للحملة العسكرية  الروسية والايرانية الضارية، التي تحرق الارض السورية ومن عليها. لكن هل من أمر يجري تحت تلك الارض، في الملاجىء والمخابىء، في العراء؟ هل من عمل مشترك يتم في الشتات، ويقيم بين أهله رباطاً إنسانياً أو إجتماعياً على الاقل، قبل ان يكون سياسياً. صار مضجراً لوم الممولين والداعمين في تخريب الثورة وأسلمتها وتسليحها. يفترض ان تصبح تلك الملامة من الماضي، وإلا وجب السؤال عن المصالحات التي نقلت السلاح من كتف الى كتف، وأثارت الشك في عمق الالتزام بالثورة، وفي صحة التوق الى التغيير.

  تقاتل فصائل المعارضة السورية في الشمال بمهارة وكفاءة عالية، إفتقد إليها أهل الوسط والجنوب والوسط والشرق. لكنه اليوم قتال إنتحاري. لم يعد لدى تلك الفصائل مكان تذهب إليه، ولم يعد لها مدى سياسي سوري يضع المعركة في سياقها الصحيح، يستثمرها، يستفيد منها بأي شكل من الاشكال.. على الاقل لينقض الفرضية الشائعة عن أن عصبية النظام وحوافز جمهوره المتنوع الانتماءات الطائفية، ما زالت أقوى من أن عصبية المعارضة وحوافز جمهورها الذي كان يعتقد أنه الغالبية الساحقة من السوريين.

مات رمز جديد للثورة السورية. قد يكون الاخير.    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها