الثلاثاء 2019/05/14

آخر تحديث: 12:54 (بيروت)

الغذاء بدلاً من السياسة

الثلاثاء 2019/05/14
الغذاء بدلاً من السياسة
increase حجم الخط decrease
عاد باسم يوسف في رمضان هذا العام، إلى "يوتيوب"، ببرنامجه "بلانت بي" عن الأنظمة الغذائية. واجتذبت قناة البرنامج، بعد أيام من أطلاق الحلقة الأولى، حوالى ربع مليون مشترك، وبلغ عدد المشاهدات للحلقة الأولى، حتى مطلع الأسبوع الجاري، حوالى مليون ونصف المليون مشاهدة، ومن المتوقع أن تواصل المشاهدات تزايدها. ومع أن البرنامج لا يحمل أي إيماءة سياسية من أي نوع، فإن مشاهدته لا تبدو ممكنة من دون الإحالة إلى السياسة بالتأكيد.

تلقف خصوم يوسف، الحلقة الأولى من البرنامج، لمعايرته واتهامه بالجبن ومهادنة النظام الحالي في مصر. فصاحب البرنامج الذي كان ينتظره عشرات الملايين من المصريين والعرب، هجر سخريته السياسية اللاذعة، إلى الحديث عن ريجيم الماء والنظام الغذائي النباتي والطبخ. أما محبو يوسف، فكثر منهم لم يُخفوا شعورهم بالأسى، ليس بسبب محتوى البرنامج، لكن لأنه أعاد إلى ذاكرتهم مقارنات بين ما كان ممكناً في مصر وما أضحت عليه الأمور اليوم.

كان باسم يوسف، قد أعلن من قبل، أكثر من مرة وبوضوح، إن العمل من داخل مصر أصبح غير ممكن في ظل تضييق النظام الحالي على الحريات. وبالوضوح نفسه، أصرّ على أنه لن يقدم "البرنامج" أو أي نقد سياسي يتعلق بمصر من الخارج. وبالطبع، يجب ألا يجتذب موقف يوسف وتمسكه به سوى الاحترام، أو على الأقل التفهم. أما محتوى برنامجه الجديد، فلا يبدو أن فيه ما يُلحق العار بصاحبه، كما يحاول خصومه الإيحاء.

غير أن الجدير بالاهتمام، في ريجيم الماء والحمية النباتية وغيرهما مما يتعلق بالنظام الغذائي، هو الدلالات السياسية المباشرة والضمنية لهذا كله، بعيداً من باسم يوسف وبرنامجه، وبالإحالة إليه في الوقت ذاته. فصناعة الأنظمة الغذائية، والتي ترتبط بشبكة مترامية من الخبراء والاختصاصيين الطبيين والبرامج التلفزيونية وصناعة النشر والبحث العلمي ومنظومة الإنتاج الغذائي والتسويق والنقل، لا يرتبط توسعها فقط بصعود منطق العناية بالذات، وتركيزه على الجسد تحديداً في الغرب خلال العقود القليلة الماضية. بل تزامن هذا كله أيضاً، مع تراجع الاهتمام بالسياسي والعام والجمعي. فمع تداعي الإيديولوجيات الكبرى، والطموحات والآمال العظمى التي ارتبطت بها، أضحى التركيز على الذات هو البديل الأكثر معقولية، والأقرب إلى التحقق. ومع تراجع مفهوم الضمان الذي كانت تقدمه دولة الرفاه الأوروبية، وبشكل أقل دول ما بعد الاستقلال، واستبداله بأنماط مؤسسية وعلاقات أكثر مخاطرة وتنافسية وأقل استقراراً، فإن هوس العناية بالجسد أضحى لا مفر منه، بوصفه أداة للمنافسة والبقاء، وكذا كموضوع للسيطرة وتأكيد الذات.

وكما في الاضطرابات النفسية المرتبطة بالتغذية، والتي في أحيان كثيرة يعوض فيها الفرد شعوره بالعجز أمام ظروفه، بقمع جسده والتحكم فيه إلى الحدود القصوى، فإن هوساً جماعياً بالأنظمة الغذائية يمكن تصور علاقته بشعور مجتمعي بالعجز. إلا أن الأمر لا يمكن اختزاله فقط في حدود التعويض الفردي. فالأنظمة الغذائية، في معظمها، ترتبط بشكل جوهري بمنظومات أخلاقية وثقافات فرعية، تتضمن شعوراً بالانتماء. تتفاوت تلك المرجعيات الأخلاقية من مسؤولية الفرد تجاه نفسه، مروراً بمناهضة الأذى الذي يتعرض له الحيوان في عمليات الإنتاج الغذائي، وصولاً إلى شعور بالمسؤولية تجاه التغيرات اللاحقة بالبيئة جراء أنظمة غذائية أو صور للإنتاج الغذائي دون غيرها. ورغم ما تحمله تلك الميول الأخلاقية من إمكانات للحشد والفعل السياسي، فإن خطرها يكمن في تصفية قضايا كبرى تتعلق بالبيئة ومسؤولية الفرد وأنظمة الضمان الاجتماعي، إلى إجابات سهلة تتعلق بوصفة الطبخ واختيارات التسوق والانتماء إلى جماعة متخيلة أو حقيقية من النباتيين أو مستهلكي المنتجات الغذائية العضوية مثلاً.

لا يعني هذا بالطبع نبذاً للعناية بالجسد على إطلاقها، أو تسخيفاً لاتّباع الكثيرين أنظمةً غذائية أكثر صحية أو أكثر مراعاة للبيئة. إلا أن ما يمكن تخمينه هنا هو أن شعوراً معمّماً بالعجز تشعر به غالبية المصريين، اليوم، ويفرضه النظام السياسي عمداً، مع صدمة هزيمة فادحة للثورة وآمالها، لم يترك سوى الفردي، وفي أضيق حدوده، أي في ما يتعلق بالجسد أو المتع ذات التبعات الهينة، أو الانتماءات الجميعة والهويات التي لا تستدعي مخاطرة من أي نوع، واتخاذ مواقف أخلاقية تظل محصورة في الحيز الخاص. ويبدو برنامج يوسف الجديد واحداً من التجليات الكثيرة لهذا كله، أو على الأقل تذكيراً لنا به، وبما وصلت إليه الأمور.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها