السبت 2019/05/11

آخر تحديث: 08:23 (بيروت)

الحرب في وقتها تماماً

السبت 2019/05/11
الحرب في وقتها تماماً
increase حجم الخط decrease
بينما تحشد الإدارة الأمريكية مزيداً من قواتها وأسلحتها في المنطقة، تحسباً لتهديدات إيرانية، تهاجم قوات الأسد التي تطغى عليها القيادة الروسية ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي. كنا شهدنا في التوقيت ذاته تصعيداً في غزة أيضاً، وهو ما لا ينبغي فصله عن التفاصيل الأخرى للوحة وإن توقف التصعيد بفضل وساطات متعددة. ما لا تُعرف حدودها بعد هي الحرب الدائرة الآن في سوريا، وهل هي "معركة الحسم" كما يروّج إعلام الأسد، علماً بأن الأسد نفسه ليس صاحب قرار فيها؟ أم أنها ستتوقف عند ابتلاع مساحة كافية ضمن الحسابات الروسية الحالية؟

قبل أسابيع كان كل الاهتمام مركزاً على موضوع تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، وقد ترافق معه ظهور أزمة معيشية غير مسبوقة في مناطق سيطرة الأسد، بل بدا كأن تلك الأزمة سيكون لها ارتدادات غير محسوبة جراء عجز وفشل الأسد في معالجتها. التصعيد الحالي أتى في توقيت مناسب جداً لطي الحديث عن الأزمة، وبدل الحديث عن الفشل هناك اليوم حديث آخر عن الانتصار، خاصة عندما يُفهم الانتصار كأنه تغلب على "العدو" التركي وعلى أردوغان شخصياً. الأهم ربما كون الحرب وسيلة تقليدية للهروب إلى الأمام، ولطالما كانت أداة للتخلص من الأسئلة الملحة داخلياً وصرف الانتباه نحو الخارج.

وجود قوتين عظميين في المنطقة أمر لا يستدعي الترقب، فهما موجودتان لسنوات خلت في مساحة ضيقة من سوريا ضمن قواعد مُتفق عليها بصرامة. على هذا الصعيد يمكن القول بوجود تكامل أو تنسيق بين الطرفين، قد يأتي على انفراد أو عبر تنسيق كل منهما مع تل أبيب. أكثر من ذلك، نستطيع القول بتوازي الضغط الأمريكي على إيران مع الضغط الروسي على أنقرة من البوابة السورية، من دون رصد رد فعل أمريكي يوحي بعدم الرضا عن السلوك الروسي الحالي.

وجود تفاهم أمريكي-روسي ضمني لا يعفي حكم أردوغان من المسؤولية التامة عن سياساته، وعن الانقلاب الذي نراه اليوم إذ يتعرض للضغط من الحليف القديم والجديد معاً. هذا الموقع يخالف التوقعات القديمة حول قدرة أنقرة على اللعب بين واشنطن وموسكو، بموجب موقعها الجيوسياسي، فتركيا لم تحقق استفادة معتبرة بقدر ما تصاغرت الفائدة إلى مستوى الحساسية المعتادة إزاء الملف الكردي. لنا أن نقارن مثلاً بين الطموحات الإيرانية أو الإسرائيلية بالمقارنة مع نظيرتها التركية، وأن نهمل في المقابل اللغو الدارج عن طموحات سلطانية لأردوغان ليس هناك في الواقع ما يؤشر إليها سوى خطاب شعبوي بائس، وفي كل الأحوال المسألة تتعلق بحسابات وصراعات النفوذ لا بالمؤامرة على إسلامية أردوغان وحزبه كما يواظب الإسلاميون على الإيحاء بذلك.

مع الهجوم الحالي "الروسي في المقام الأول" على ريفي حماة وإدلب، أعلنت أنقرة عن تقدم في المفاوضات حول "المنطقة الآمنة" التي يُفترض إقامتها على أراض تسيطر عليها الميليشيات الكردية، بينما لم يصدر أي تأكيد رسمي أمريكي ما يترك الإعلان التركي موجهاً للاستهلاك المحلي. أيضاً، وزيادة في توضيح المغزى، كانت قوات ما يُسمى "الجيش الوطني" التابعة لأنقرة قد هاجمت الميليشيات الكردية في "تل رفعت"، قبل عودتها بتعليمات تركية مفادها خضوع المنطقة لتفاهمات ما تزال سارية مع موسكو. بعبارة أوضح، لن تحصل أنقرة على ثمن لقاء المناطق التي ستذهب إلى سيطرة الأسد وحلفائه، أو بالأحرى لقاء تمريغ صورتها كضامن لأمن تلك المناطق المكتظة بسكانها وبالنازحين إليها.

نضيف إلى ما سبق أزمة أردوغان الداخلية المتمثلة بخسارة الانتخابات البلدية، وصولاً إلى قرار إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول وانعكاساته، مع ما يعنيه كل هذا من زيادة ارتهانه للتحالف مع التيار القومي المتشدد. أي أن حكم أردوغان هو في أضعف حالاته منذ فشل محاولة الانقلاب، أو منذ تبديد الرصيد الذي ناله بسبب تلك المحاولة. الهجوم على ريفي حماة وإدلب في هذا التوقيت يستبطن عجز أردوغان عن إبداء أي رد فعل، وعجزه عن التلويح بالانعطاف نحو واشنطن التي تدرك مأزقه أيضاً، وليست في وارد مدّ يد العون بخاصة بعد أزمة صفقة صواريخ S400 العالقة بين الطرفين حتى الآن.

ربما تتحفظ واشنطن على هجوم شامل يخلق أزمة إنسانية فاضحة، ويتطلب إجابة سريعة عن مصير الجهاديين المصنفين على لائحة الإرهاب الدولية. هذا قد يتقاطع أيضاً مع رغبة موسكو التي لا تستعجل حسماً نهائياً يختتم ما تسوّقه كانتصارات عظمى، وربما ترجّح عليه التقدم بإيقاع تُقبل وحشيته من الغرب، ولا يتسبب سريعاً بانهيار مسار أستانة، فضلاً عن أن الاحتفاظ بورقة يمكن التهديد والتكسب بها قد يكون خياراً مجزياً أكثر من اجتياح بري واسع لا بأس بتأجيله. وكما نعلم فإن حصر المعركة الأخيرة بما سيتبقى من إدلب تكتيك تكاد تكون نتائجه مضمونة، فإذا كان من السهل القضاء على التنظيمات التي طالما صُنٍّفت معتدلة فإن الهجوم على تنظيمات مصنفة إرهابية لن يلقى معارضة أو استنكاراً دوليين، وما يُحكى عن الكلفة البشرية لهكذا معركة لم تثبت صحته سوى في ما يخص الضحايا المدنيين، وتجربة المقاومة الهزيلة لداعش مع تبخر كوادره فيها ما فيها من دروس.

أن نشير إلى هول المذبحة الحالية والمؤجلة فهذا لن يستثير ضمائر المعنيين باستمرارها، وإذا كان لنا تقسيم مراحل الصراع فقد نكون اليوم أمام معارك الإقصاء الأخيرة التي لن تقل شراسة عن سابقاتها. لقد عشنا من قبل إقصاء القضية السورية بفتح الساحة أمام الميليشيات الشيعية ونظيراتها السنية، بهدف إنهاك الطرفين، ثم عشنا مرحلة ضبط فوضى السلاح بطرد اللاعبين الصغار خارج الحلبة، بما في ذلك طرد داعميهم العرب. الآن ربما حان دور القوتين الإقليميتين المتبقيتين "إيران وتركيا"، ولعل إبرام صفقة روسية-أمريكية تخص سوريا متوقف على الانتهاء من هذه المهمة وقدرة الروسي على تأدية القسط الأكبر منها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها