الثلاثاء 2019/03/05

آخر تحديث: 12:19 (بيروت)

جزائريون لم يشهدوا العشرية السوداء

الثلاثاء 2019/03/05
جزائريون لم يشهدوا العشرية السوداء
"البطل الوحيد هو الشعب" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
الجزائر هي البلد النموذج، والأكثر مناسبة لكتب التدريس الجامعية في أقسام "ما بعد الاستعمار". كان المشروع الاستيطاني الفرنسي هناك، هو التمثل الإمبريالي الأكثر وحشية ومنهجية والأطول تاريخاً في منطقتنا، وخاض الجزائريون ضده واحدة من أشرس وأقسى حروب التحرير التي شهدها القرن العشرين. 

وكما كانت الجزائر هي المحور لأفكار فرانتز فانون، عن حق المقموعين في العنف، فإنها أيضاً كانت ساحة لبصيرته الثاقبة ومخاوفه بشأن مستقبل أنظمة ما بعد الاستقلال "الوطنية". كان الجنرالات الفرنسيون هم الأكثر إدراكاً لنموذجية المثال الجزائري. فالمُرسَلون منهم إلى أميركا اللاتينية لتدريب جيوشها على مواجهة الخطر الشيوعي، أواخر الخمسينات، أردوا تعميم تكتيكات "الحرب الثورية" التي خاضوها في مدن الجزائر. كان منطق العسكرية الفرنسية سهلاً ومباشراً، ومرعباً أيضاً، تحويل الجيوش الوطنية إلى قوات احتلال، مهمتها الأساسية الترويع الدائم للمدنيين، وتحطيم المجتمع. وكانت وصفة الجزائر الفرنسية ناجحة إلى حد كبير، حتى نهاية الثمانينات، ليس في القارة اللاتينية وحدها، بل وكذلك في الجزائر نفسها. فمناضلو التحرير القدامى، ورثوا منظومة السلطة الاستعمارية بأدواتها ومنطقها، وأبقوا عليها كما هي، مع الكثير من الرتوش الوطني.

قبل سوريا، كانت الجزائر أيضاً المثال الذي روع به حكّام منطقتنا شعوبهم. ففيما يذهب البعض إلى أن انتفاضة الجزائر الحالية، ومن قبلها السودان، هي ربيع عربي قد تأخر، أو موجة ثانية منه، فإن التاريخ القريب يخبرنا بأن الجزائر كان لها ربيعها قبل حوالى ربع قرن من الثورات العربية. فانتفاضة أكتوبر 1988، التي أنهت نظام الحزب الواحد هناك، لم تكن فقط المثال المنسي عن الثورات العربية، بل إن مآلاتها كانت النموذج الذي تخوف من أشباحه الجميع، حتى لم يعد هناك بد من مواجهتها. "النموذج الجزائري" بعشريته السوداء، ظل الكابوس الذي هيمن على السياسية في مصر في عقد التسعينات، على سبيل المثال، على اعتبار أن أي انتخابات حرة ستنتهي باكتساح الإسلاميين. وكما أثبتت النبوءة ذاتية التحقق، صدقها، بعد الثورة في مصر، فإن النصف الثاني من النبوءة الجزائرية كان له أن يكتمل بعودة الجيش للحكم مرة أخرى، وعلى مستنقع من الدماء أيضاً.

يبدو الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، الذي أصابته الجلطة قبل ستة أعوام ويرقد في مشفى في جنيف في شبه غيبوبة دائمة، بينما تتأهب حملته الانتخابية لترشيحه لفترة جديدة، نموذجاً فانتازياً لأدب الديكتاتوريات، أو مثالاً كلاسيكياً لمنطق السيادة في مَلَكيات ما قبل الحداثة، حيث تتركز شرعية السلطة في جسد الحاكم، حتى بعد موته. لكن الجزائريين، الذين قبلوا قسراً أو طوعاً، مقايضة الحرية بالاستقرار، بعد أهوال حرب أهلية حصدت أرواح مئتي ألف من الضحايا، لم يعودوا مستعدين لتحمل مهانة أن يحكمهم رجل على فراش الموت. أما منظومة الحكم التي شاخت، وتكلست مفاصلها حتى أضحت عاجزة عن تصور أي إمكانية لانتقال السلطة حتى من داخلها، فلم يعد في جعبتها سوى الإعلان، يوم الأحد الماضي، عن طلبها لمهلة لعام آخر، يحكم فيها بوتفليقة إسمياً، حتى تتدبر أمرها.

لكن جيلاً من الجزائريين، ربما لم يشهد العشرية السوداء، ولم يعتد بترويعه بالمصير السوري، يبدو مصمماً على خوض حراك. ترك منطق الربيع العربي وراءه، واضعاً الجزائر كبلد مثال مرة أخرى. فالتظاهرات الجزائرية، تخبرنا بأن فزاعة الإسلاميين، ومعادلات القمع/الاستقرار والتهديد بالحروب الأهلية وغيرها، لا تصمد طويلاً. تتعلق العيون كلها بالجزائر اليوم، فما يحدث هناك يتجاوز أن يكون إعادة للربيع العربي، أو موجة ثانية له. بل ربما له أن يلهم شعوب المنطقة قريباً بأمل للخروج من نكبات الثورات العربية، وتعويض هزائمها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها