الثلاثاء 2019/03/26

آخر تحديث: 01:20 (بيروت)

عن مهزلة الحوار السُني-العَلوي

الثلاثاء 2019/03/26
عن مهزلة الحوار السُني-العَلوي
increase حجم الخط decrease
قبل أسبوع نشرت صحيفة "الشرق الأوسط" ما يبدو أنه سبق صحافي في تغطية حوار سني-علوي يجري برعاية ألمانية، الزميل إبراهيم حميدي الذي دُعي لحضور الإعلان عن ذلك الحوار نقل أجواء تتراوح بين الرغبة في الكشف عنه لغايةٍ ما وبين التحفظ على بعض تفاصيله. أصحاب الحوار يطرحون سقفاً عالياً لمبادرتهم ودورهم، فهم يعتبرون أنفسهم أصحاب حيثيات تمثيلية واسعة، ويمنحون لأنفسهم الحق بطرح ما يسمّونه "مدوّنة سلوك لعيش سوري مشترك" وصولاً إلى طرحهم مبادئ فوق دستورية.

الخبر نال آنذاك بعض السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي بخاصة من فريقين؛ يرى الأول منهما أن المسألة الطائفية مستفحلة بحيث يكون حوار برلين أقرب إلى عبث الصبيان بالمقارنة معها، بينما يرى الفريق الآخر نفسه خارج المسألة الطائفية أصلاً، ولا يريد لمستقبل سوريا أن يُبنى على تفاهمات بين عصبيات مذهبية أو قومية. الاستخفاف الذي رافق نشر الخبر لا يعكس جدية الذين رعوا الحوار لأكثر من سنتين في أوروبا، وقدّموا تسهيلات لسوريين أتوا من الداخل بعلم وموافقة سلطة الأسد؛ الأمر الذي يُستبعد حدوثه بعيداً عن مشاريع التسوية المطروحة أو مواكبتها. لقد عايشنا من قبل تكوين هيئات نُظر إليها باستخفاف عام، وما لبثت أن نالت اعتباراً لدى فريق المبعوث الدولي لسوريا تحت مسميات مثل المجتمع المدني، والعديد منها ينسب لنفسه مكانة التمثيل التصالحي بدل حالة الصراع القائمة.

واحد من الشعارات التي يطرحها أصحاب الحوار السني-العلوي في برلين في وثيقتهم هو "لا أحد بريء من الذنب"، وهذه مقدّمة غريبة جداً لتناقضها مع القاعدة القانونية التي تبرئ من لم تثبت إدانته، ليزداد وجه الغرابة مع وجود مدير للحوار خبير بالدستور! طبعاً يُفهم من تجريم الجميع مسبقاً جعلُهم على قدم المساواة مع سلطة الأسد، ولدينا فئة تزعم الوجود في موقع المعارضة ولا توفر فرصة لتجريم الجميع خدمة لمن تزعم معارضته. أيضاً تبدو هذه المقولة استئنافاً وجَمْعاً لأقوال الذين يجعلون من الجريمة شأناً جماعياً وهوياتياً، سواء من قبل الأسديين الذين وصموا عموم السنة بالإرهاب أو من قبل معارضين جرّموا عموم العلويين بناء على وحشية الأسد.

رغم وجود شعارين لاحقين، هما "محاسبة لا ثأر" و"جبر الضرر"، إلا أنهما يبقيان في فلك تمييع القضية برمّتها من خلال الإصرار على عدم استخدام كلمة العدالة. الانزياح عن مفهوم العدالة، بعد الانطلاق من تجريم الجميع، لا يمكن إلا أن يهدف إلى تمييع المسؤوليات وإهدار حقوق المتضررين. التستر وراء صعوبة تحقيق العدالة بسبب حجم المنخرطين في الانتهاكات وتعددهم لن يكون سوى ذريعة أخرى لطي صفحتها، وأغلب الظن أن لا أحد من السوريين يتوخى العدالة المطلقة، ولا أحد يتوقع أن تملأ المشانق شوارع البلاد نتيجة لذلك. لكن في المقابل، نعلم جميعاً أن الصفح بلا محاكمة الماضي ورموزه ستعيد إنتاج المجازر، طالما بقي الإفلات من العقاب متاحاً بسهولة.

ما يحدث عند التطرق إلى العدالة أن يؤخذ الكلام عادة على محمل أخلاقي وحقوقي مع إهمال جانبها السياسي، بينما هي في الواقع أحد المداخل المهمة لتأسيس حالة سياسية صحية في أي مجتمع. لا يُستثنى من ذلك أن العدالة مدخل لاختراق الطائفية، حيث يُحاسب الأفراد بحسب مسؤولياتهم فلا يُسمح لهم بالاستقواء وراء جماعة من أي نوع، مثلما لا تجرّم جماعة بناء على ارتكابات أفراد منها. في حالتنا السورية، فضلاً عن جرائم الإبادة الكبرى التي ارتكبها الأسد وشبيحته، هناك جرائم حرب مسجّلة على فصائل قاتلت الأسد، وفصائل أخرى لم تقاتله. العبور إلى المستقبل يبدأ على الأقل بمحاكمة أصحاب القرار في ارتكاب تلك الجرائم، مع لحظ التدرج في المسؤوليات إلى أسفل الهرم. العفو والتسامح الضروريان للمجتمع السوري لن يأتيا قبل تسمية الجريمة وإدانة أصحابها، ولا قيمة معنوية وأخلاقية وسياسية لأي عفو ما لم يصدر عن سلطة لها اعتبار تمثيلي وطني معترف به.

على صعيد الإطار التمثيلي للحوار نفسه، لا يُعرف على أي أساس يزعم البعض "ومنهم ثلاثة زعماء عشائريين" تمثيل السنّة، ونحن لم نخرج بعد من صراع يوضّح لنا كيف أن السنّة يتوزعون بين مشارب وانتماءات مختلفة ومتصارعة، بمعنى أنهم لا يشكّلون طائفة. الشخصيات التي تزعم تمثيل العلويين لم يُفصح عنها، لكننا أيضاً لا نعرف أي انتظام للعلويين بالمعنى الطائفي، باستثناء شركاء الأسدية أو الموالين لها باعتبارها سلطة، وبهذا المعنى يصبح بشار هو الأولى باحتكار التمثيل من أولئك الذين كانوا يحاورون في برلين، أو ينفي عنهم أية استقلالية مزعومة عنه. وإذا أخذنا هذا المعنى فسيصحّ التمثيل السني من خلال هيئات أو تنظيمات تطرح نفسها على أساس طائفي، وفي هذه الحالة يكون التفاوض بين بشار والتنظيمات الإسلامية هو المدخل المناسب والمتكافئ بين الطرفين.

بالطبع سيكون من المجازفة نفي الشروخ الطائفية في سوريا، ومن المجازفة أيضاً تحميل كل شرور الأسدية عليها، فلدينا في المنطقة أمثلة أخرى على أنظمة استبداد لا تحوز انقساماً طائفياً. ذلك يتطلب الاعتراف بالتأثير النسبي للمسألة الطائفية، ورؤية الظاهرة الطائفية نفسها في المجال السياسي لا في مجال الاختلاف المذهبي أو الديني. من ثم فإن مدخل الحل هو في تغيير بنية النظام السياسي لا في التحايل على قضية التغيير، ولا في إجراء مصالحات على طريقة "تبويس اللحى" العشائرية، ولعل من طرائف المدونة التي وضعها أصحاب الحوار السني-العلوي نصها على "عدم تسييس المجتمع السوري على أساس قومي أو ديني أو مذهبي" رغم تقديمهم أنفسهم ممثلين لحيثيات اجتماعية وفق الأسس المذكورة. وبحسب مدير الحوار فقد جرى استبعاد ثلاثة بنود من النقاش تسهيلاً له هي: "النظام والمعارضة، بشار الأسد، ثورة أم مؤامرة"!

يرغب كثر من اللاعبين الخارجيين ووكلائهم المحليين في طي صفحة الصراع في سوريا، وربما هناك حاجة لتلفيق ما تبدو أنها مصالحات مجتمعية والترويج لها جنباً إلى جنب مع مشاريع إعادة تدوير البنية الأمنية للأسدية. لكن هذا السياق الركيك، والفاجر في إنكاره الواقع، يذكّرنا بنكتة قديمة عن الرقيب العثماني الذي كان يتشدد في السماح بنشر كل ما يتعلق بالانتفاضات والاحتجاجات، وبسبب كثرة محظوراته اقتصرت تغطية إحدى الصحف التركية للثورة البلشفية على خبر صغير مفاده: في الأمس حدثت خناقة في روسيا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها