الثلاثاء 2019/03/26

آخر تحديث: 13:33 (بيروت)

إسرائيل إلى القمر: خصخصة الفضاء

الثلاثاء 2019/03/26
إسرائيل إلى القمر: خصخصة الفضاء
"سيلفي" التقطتها كاميرا "برشيت" على بُعد 23 ألف و363 ميلاً من الأرض (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لوقت طويل، اعتمدت البروباغندا الإسرائيلية الموجهة إلى العالم، على مسألة الديموقراطية. فحُكم القانون، والتداول السلمي للسلطة والانتخابات والفصل بين السلطات، كانت جميعها حججاً لا تثبت فقط إن إسرائيل أقرب إلى الغرب من جيرانها، بل أيضاً تفوقها عليهم في سلَّم التحضر والترقي الإنساني. لكن معيار الديموقراطية نفسه، كأساس للتقييم، يتراجع حول العالم، ويتصاعد هوس بمنطق القوة، ولا يبدو الساسة الإسرائيليون معنيين كما كانوا بإثبات ديموقراطيتهم. فنتنياهو يعلن صراحةً رفضه لمفهوم المواطنة بالكامل، وتمد حكومته يد الصداقة لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، بحماس شديد.

إلا إن البروباغندا الإسرائيلية لم تعتمد، في ادعاء تفوقها، على شكل منظومة الحكم فقط، بل وكأي دعاية استعمارية، كان الإنجاز العلمي والتقني أحد حججها لادعاء "التقدم"، وبالتالي الاستحقاق. وفي نهاية الأسبوع الماضي، بلغت إسرائيل لحظة فارقة في تاريخها، بإعلانها إنها أصبحت الدولة الرابعة التي ترسل مركبة فضائية إلى القمر. لا تلحق إسرائيل فقط بالقوى العظمى الثلاث، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والصين، بل والأهم تتفوق على كافة دول أوروبا الغربية واليابان والهند. هكذا ترسخ الدولة العبرية الصيغة الجديدة لدعاياتها عن نفسها، ومرتكزها الأهم: "إسرائيل دولة عظمى تكنولوجيا"، أو ربما رابع أقوى دولة في العالم.

وبلا شك، فإن إسرائيل تتمتع بفارق شاسع، علمياً وتكنولوجياً، عن جيرانها، إلا أن قصة المركبة "برشيت" لا تخلو من مغالطات متعمّدة. فالمركبة التي تحمل اسم سفر التكوين التوراتي "برشيت"، بدأت شركة إسرائيلية خاصة في تصميمها العام 2007، في إطار التنافس على جائزة لـ"غوغل" باسم "لونار إكس برايز". وفيما فشلت الشركة الإسرائيلية "سبيس إل"، مع غيرها من المشاركين، في إنجاز مهمتها والفوز بالجائزة، فإن تمويل كلفة المركبة الذي بلغ 100 مليون دولار، كان قد جُمع كتبرعات. وعلى سبيل المثال، فقد تبرع بـ24 مليون دولار (أي ربع الكلفة تقريباً)، الملياردير الأميركي، شيلدون إديلسون وزوجته مريام، وهما من أهم داعمي الحزب الجمهوري والرئيس ترامب.

لكن صعود إسرائيل إلى القمر لم يحدث فقط بفضل رأس المال الأميركي، بل أيضا في صاروخ أميركي ومن قاعدة أميركية، محملاً بمعدات أميركية وبريطانية. فالصاروخ "فالكون 9"، الذي يحمل "برشيت"، هو من إنتاج الشركة الأميركية الخاصة "سبيس إكس"، لصاحبها الملياردير الأميركي إيلون موسك، وانطلق من قاعدة كيب كانافيرال بولاية فلوريدا، بإشراف وكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، التي زودت المركبة بأجهزة عاكسة للضوء تشبه تلك التي استُخدمت في رحلات "أبولو" إلى القمر. أما وكلاء الفضاء البريطانية الرسمية، فقد زودت المركبة بالمحرك "ليروس"، الذي سيضمن دخول برشيت في المدار القمري. وأدخلت الشركة البريطانية "نامو"، تعديلات على المحرك "ليروس" ليناسب المركبة.

تدخل مؤسسة الفضاء الإسرائيلية كشريك في المشروع، بالطبع، وتحمل المركبة نسخة من التوراة، وقرصاً سُجّلت فيه نصوص دينية يهودية، وعَلَم إسرائيل، ورسوماً لأطفال إسرائيليين، وكتابات عن الهولوكوست. ومع هذا، فإن ادعاء "وصول" إسرائيل إلى القمر، يبدو مبالغاً فيه إلى حد كبير. فالتمويل والتصميم والتصنيع والإطلاق والتشغيل والمتابعة لعملية "برشيت"، إضافة إلى جزء كبير من التكنولوجيا المستخدمة، تبدو كلها أميركية بالإساس، بمساهمة ثانوية من شركة خاصة إسرائيلية، وتبرع سخي من مالكها.

لا تبدو الدعاية الإسرائيلية عن صعودها إلى القمر، بعيدة من الصراع الاستعراضي الطويل في الفضاء، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة، ولا عن إعلان ترامب عن عودة الرحلات المأهولة إلى القمر بعد توقف طويل، لأغراض دعائية أيضاً، ولا عن ضغطه على وكالة "ناسا" للهبوط على سطح المريخ قبل انتهاء فترته الرئاسية الحالية، وهو الأمر الذي قيل له علناً أكثر من مرة أنه غير ممكن.

لكن رحلة "برشيت" ليست مجرد عملية استعراضية في حملة للدعاية الإسرائيلية، بل إن ما تكشفه هو أبعد من هذا، أي عملية خصخصة الفضاء. فالصاروخ "فالكون 9"، ليس سوى بند واحد في ما يطلق عليه "سباق المليارديرات الفضائي"، والذي تعتلي قمته شركة "سبيس إكس" لمالكها إيلون موسك، وشركة "فيرجين أوربيت" لصاحبها الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون، وكذلك "بلو أورجون" ومالكها المليارديرالأميركي جيف بيزوس. تسعى تلك الشركات لتحقيق عدد من المشروعات الطموحة، والمبالغ في طموحها أحياناً كثيرة، كتنظيم رحلات فضائية سياحية، وإقامة محطات فضائية مأهولة ودائمة، والتعدين في الفضاء، واستغلال مخزون الماء في كواكب المجموعة الشمسية، وغيرها.

لكن الغرض الأكبر الذي تسعى إليه تلك الشركات في الحقيقة، هو العمل لصالح الوكالات الحكومية. فخفض ميزانية "ناسا"، مع معظم وكالات الفضاء في الدول الغربية، تزامن مع توسع تلك الوكالات الحكومية في إسناد عقود التصميم والتشغيل لشركات خاصة. ويفتح ذلك سوقاً واسعة وضخمة للقطاع الخاص، ولمساهمة رأس المال العابر للقارات في برامج الفضاء الحكومية. ويأتي "برشيت" كواحد من العروض الافتتاحية لذلك السوق، حيث يبدو إن رأس المال الإسرائيلي مرحب به فيه ومؤتمن، بل وربما يحظى بوضع تفضيلي أيضاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها